Rabu, 07 Desember 2011

Menjaga sejarah setelah Nabi Saw. wafat

Agus Subandi,Drs.MBA

العواصم من القواصم
في
تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي 



تأليف
القاضي أبي بكر بن العربي
(468 - 543هـ)

رسالة التقدير
وقع هذا الكتاب من أولياء الله وأنصار دينه وأحباب محمد  وأصحابه من المهاجرين والأنصار موقع التقدير والرضا، كما وقع من مبغضي الصحابة وشانئيهم موقع السخط والغيظ.
ومن رسائل التقدير والتشجيع التي تلقيناها رسالة كريمة يراها القارئ في الصفحة التالية، وهي صادرة عن ركن من أركان بيت العلم والهدى في الأرض المباركة، أدام الله النفع به.
المملكة العربية السعودية مكة المكرمة
رئاسة هيئات الأمر بالمعروف بالحجاز في 23/1/1374

بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب الفضيلة الأخ الكريم الشيخ محب الدين الخطيب سلمه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فقد وصل إلى أيدينا كتاب [العواصم من القواصم] للإمام أبي بكر بن العربي، بتصحيح وتعليق فضيلتكم. وقد اطلعنا على هذا الكتاب العظيم فوجدناه من خير الكتب وأعظمها نفعا، إذ انبرى مؤلفه رحمه الله يدافع عن حملة الإسلام ومن قامت على كواهلهم دولته، أصحاب رسول الله  وقد أوفى على الغاية في تبيين محاسن أولئك الأبرار رضي الله عنهم وأرضاهم، وإنه لسهم صائب أصاب من باطل أعدائهم -أخزاهم الله- مقتلا. فرحم الله المؤلف وأجزل له الثواب، وجزاكم الله أحسن الجزاء على تعليقاتكم القيمة التي دلت على سعة علمكم، وصدق نصحكم للإسلام والمسلمين.
ونحن يسرنا بهذه المناسبة أن نقدم لكم عظيم شكرنا وتقديرنا لعملكم المجيد هذا بإخراجكم هذا الكتاب صيحة تنصر الحق وتخذل الباطل. والباري يحفظكم.
أخوكم في الله
رئيس هيئات الأمر بالمعروف بالحجاز
عبد الملك بن إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
الحمد لله الذي أنعم على الإنسانية برسالة الإسلام، وصلى الله وسلم على الإنسان الأعلى، والمعلم الأكمل، محمد بن عبد الله صفوته من خلقه. وأعلى مقام الذين قاموا بتحقيق رسالته، ممن تشرفوا بصحبته، وأحسنوا الخلافة على أمته، ومن واصلوا عملهم بعدهم، ملتزمين سنتهم، ومتحرين أهدافهم، إلى يوم الدين.
وبعد فإن هذا العالم الإسلامي الذي نعتز بالانتساب إليه، ونعيش لإسعاده والسعادة به، قد افتتح أكثره في الدولة الإسلامية الأولى بعد الخلفاء الراشدين، ودخل معظم شعوبه في هداية الإسلام على أيدي الخلفاء الأمويين وولاتهم وقواد جيوشهم، إتماما لما بدأ به صاحبا رسول الله  وخليفتاه الأولان - أبو بكر وعمر - سلام الله عليهما، ورضي عنهما وأرضاهما وأحسن جزاءهما عنا وعن الإسلام نفسه وجميع أهله.
وإن حادثة انتشار الإسلام، ودخول الأمم فيه، أصبحت في ذمة التاريخ. والأجيال التي أتت بعد ذلك إلى يومنا هذا منهم من يفتخر بذلك، ويمتلئ قلبه سرورا به، ويدعو بالخير لمن كانوا سبب هذا الخير العظيم. ومنهم من ابتأس به، وامتلأ فؤاده حقدا على الذين عملوا فيه، وجعل من دأبه أن يصمهم بكل نقيصة. وقد نعذر الذين لم يذوقوا حلاوة الإسلام وحالت البيئة بينهم وبين الأنس بعظمته، وشريف أغراضه، وسيرة الذين قاموا به، إذا نظروا إلى تاريخ الإسلام نظرة خاطئة، واتخذوا له في أذهانهم صورة غير صورته التي كانت له في الواقع. ولكني أعترف- ولا فائدة من الإنكار- بأن في المنسوبين إلى الإسلام من يبغض حتى الخليفة الأول لرسول الله  ويقلب جميع حسناته سيئات. وإن أحد الذين شاهدوا بأعينهم عدل عمر، وزهده في متع الدنيا، وإنصافه لجميع الناس، لم يستطع أن يمنع الحقد الذي في فؤاده على الإسلام من أن يدفعه إلى طعنه بالسكين دون أن يسيء إليه. وفي قوم طاعن عمر بالسكين من يؤلفون المؤلفات إلى يومنا هذا في تشويه حسنات هذا المثل الأعلى للعدل والإنسانية والخير. وفي عصر عثمان من ضاقت صدورهم بطيبة ذلك الخليفة الذي خلق قلبه من رحمة الله، فاخترعوا له ذنوبا وما زالوا يكررونها على قلوبهم حتى صدقوها، وتفننوا في إذاعتها، ثم استحلوا سفك دمه الحرام، في الشهر الحرام، بجوار قبر أبي زوجتيه محمد عليه الصلاة والسلام. وما برحت الإنسانية تشاهد المعجزات من رجالات الإسلام في نشره وإدخال الأمم فيه وتوسيع النطاق في الآفاق لكلمة " الله أكبر... حي على الفلاح " حتى نودي بها على جبال السند، وفي ربوع الهند وعلى سواحل المحيط غربا، وفي أودية أوربا وجبالها، بما لم يملك أن يصفه حتى أعداء الإسلام إلا بأنه معجزة. كل هذا في زمن هذه الدولة الأموية، التي لو صدر عن المجوس وعبدة الأوثان عشر ما صدر عنها من الخير، وجزء من مائة جزء مما أثر عن رجالها من إنصاف ومروءة وكرم وشجاعة وإيثار وفصاحة ونبل، لرفعوا لأولئك المجوس والوثنيين ألوية الثناء والتقدير، لكنه في الخافقين، والتاريخ الصادق لا يريد من أحد أن يرفع لأحد لواء الثناء والتقدير، لكنه يريد من كل من يتحدث عن رجاله أن يذكر لهم حسناته على قدرها، وأن يتقي الله في ذكر سيئاتهم فلا يبالغ فيها، ولا ينخدع بما افتراه المغرضون من أكاذيبها.
ونحن المسلمين لا نعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله  وكل من ادعى العصمة لأحد بعد رسول الله  فهو كاذب. فالإنسان إنسان يصدر عنه ما يصدر عن الإنسان، فيكون منه الحق والخير، ويكون منه الباطل والشر. وقد يكون الحق والخير في إنسان بنطاق واسع فيعد من أهل الحق والخير ولا يمنع هذا من أن تكون له هفوات. وقد يكون الباطل والشر في إنسان آخر بنطاق واسع، فيعد من أهل الباطل والشر، ولا يمنع هذا من أن تبدر منه بوادر صالحات في بعض الأوقات.
يجب على من يتحدث عن أهل الحق والخير إذا علم لهم هفوات، ألا ينسى ما غلب عليهم من الحق والخير فلا يكفر ذلك كله من أجل تلك الهفوات. ويجب على من يتحدث عن أهل الباطل والشر إذا علم لهم بوادر صالحات، ألا يوهم الناس أنهم من الصالحين من أجل تلك الشوارد الشاذة من أعمالهم الصالحات. إن أحداث المائة الأولى من عصور الإسلام كانت من معجزات التاريخ والعمل الذي عمله أهل المائة الأولى من ماضينا السعيد لم تعمل مثله أمة الرومان ولا أمة اليونان قبلها. ولا أمة من أمم الأرض بعدها.
وأما أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء الأربعة الراشدين، وإخوانهم من العشرة المبشرين بالجنة، وطبقتهم من أصحاب رسول الله  خصوصا الذين لازموه وراقبوه وتمتعوا بجميل صحبته - من أنفق منهم من قبل الفتح وقاتل، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا - فإنهم جميعا كانوا شموسا طلعت في سماء الإنسانية مرة، ولا تطمع الإنسانية بأن تطلع في سمائها شموس من طرازهم مرة أخرى إلا إذا عزم المسلمون على أن يرجعوا إلى فطرة الإسلام، ويتأدبوا بأدبه من جديد، فيخلق الله منهم خلقا آخر يعيش للحق والخير، ويجاهد الباطل والشر، حتى تعرف الإنسانية طريقها الحقيقي إلى السعادة. وهذه الشموس من أصحاب رسول الله  تتفاوت أقدارها، وتتباين في أنواع فضائلها، إلا أنها كلها كانت من الفضائل في مرتقى درجاتها، وإذ بدأ المشتغلون بتاريخ الإسلام من أفاضل المسلمين في تمييز الأصيل عن الدخيل من سيرة هؤلاء الأفاضل العظماء، فإنهم ستأخذهم الدهشة لما اخترعه إخوان أبي لؤلؤة، وتلاميذ عبد الله بن سبأ، والمجوس الذين عجزوا عن مقاومة الإسلام وجها لوجه في قتال شريف. فادعوا الإسلام كذبا، ودخلوا قلعته مع جنوده خلسة، وقاتلوهم بسلاح (التقية) بعد أن حولوا مدلولها إلى النفاق، فأدخلوا في الإسلام ما ليس منه، وألصقوا بسيرة رجاله ما لم يكن فيها ولا من سجية أهلها. وبهذا تحولت أعظم رسالات الله وأكملها إلى طريقة من الخمول والعطالة والجمود كان من حقها أن تقتل الإسلام والمسلمين قتلا، لولا قوة الحيوية الخارقة التي في الإسلام، وهي التي ترجى إذا رجعنا إليها، وجردناها من الطوارئ عليها، وخلصنا سيرة رجالها مما شيبت به، وسرنا في طريقهم مخلصين، أن نعود مسلمين من ذلك الطراز الأول كما كان في الواقع، لا كما أراد مبغضو الصحابة والتابعين لهم بإحسان أن يعرضوه على الناس.
ونحن بتقديمنا هذه الحقائق من قلم الإمام ابن العربي، أو من النصوص الأصيلة التي علقنا عليها، إنما أردنا عكس ما يريد المتعرضون لهذه البحوث من ترديد خلافات عفا عليها الزمن. والصحابة كانوا أسمى أخلاقا وأصدق إخلاصا لله وترفعا عن خسائس الدنيا من أن يختلفوا للدنيا، لكن كان في عصرهم من الأيدي الخبيثة التي عملت على إيجاد الخلاف وتوسيعه مثل الأيدي الخبيثة التي جاءت فيما بعد فصورت الوقائع بغير صورتها. ولما كان أصحاب رسول الله  هم قدوتنا في ديننا وهم حملة الكتاب الإلهي والسنة المحمدية إلى الذين حملوا عنهم أماناتها حتى وصلت إلينا، فإن من حق هذه الأمانات على أمثالنا أن ندرأ عن سيرة حفظتها الأولين كل ما ألصق بهم من إفك ظلما وعدوانا، لتكون صورتهم التي تعرض على أنظار الناس هي الصورة النقية الصادقة التي كانوا عليها، فتحسن القدوة بهم وتطمئن النفوس إلى الخير الذي ساقه الله للبشر على أيديهم. وقد اعتبر في التشريع الإسلامي أن الطعن فيهم طعن في الدين الذي هم رواته، وتشويه سيرتهم تشويه للأمانة التي حملوها، وتشكيك في جميع الأسس التي قام عليها كيان التشريع في هذه الملة الحنيفية السمحة. وأول نتائجه حرمان شباب الجيل، وكل جيل بعده، من القدوة الصالحة التي من الله بها على المسلمين ليتأسوا بها، ويواصلوا حمل أمانات الإسلام على آثارها، ولا يكون ذلك إلا إذا ألموا بحسناتهم، وعرفوا كريم سجاياهم، وأدركوا أن الذين شوهوا تلك الحسنات وصوروا تلك السجايا بغير صورتها، إنما أرادوا أن يسيئوا إلى الإسلام نفسه بالإساءة إلى أهله الأولين. وقد آن لنا أن ننتبه من هذه الغفلة فنعرف لسلفنا أقدارهم، لنسير في حاضرنا على هدى ونور من سيرتهم الصحيحة وسريرتهم النقية الطاهرة.
وهذا الكتاب الذي ألفه عالم من كبار أئمة المسلمين بيانا لما كان عليه أصحاب رسول الله  من صفات الكمال، وإدحاضا لما ألصق بهم وبأعوانهم من التابعين لهم بإحسان، يصلح على صغره لأن يكون صيحة من صيحات الحق توقظ الشباب المسلم إلى هذه الدسيسة التي دسها عليهم أعداء الصحابة ومبغضوهم ليتخذوها نموذجا لأمثالها من الدسائس فيتفرغ الموفقون إلى الخير منهم لدراسة حقيقة التاريخ الإسلامي واكتشاف الصفات النبيلة في رجاله فيعلموا أن الله  قد كافأهم عليها بالمعجزات التي تمت على أيديهم وأيدي أعوانهم في إحداث أعظم انقلاب عرفه تاريخ الإنسانية. ولو كان الصحابة والتابعون بالصورة التي صورهم بها أعداؤهم ومبغضوهم لكان من غير المعقول أن تتم على أيديهم تلك الفتوح، وأن تستجيب لدعوتهم الأمم بالدخول في دين الله أفواجا.
والقاضي أبو بكر بن العربي مؤلف (العواصم من القواصم ) إمام من أئمة المسلمين، ويعتبره فقهاء مذهب الإمام مالك أحد أئمتهم المقتدى بأحكامهم، وهو من شيوخ القاضي عياض مؤلف كتاب ( الشفا في التعريف بحقوق المصطفى )، ومن شيوخ ابن رشد العالم الفقيه والد أبي الوليد الفيلسوف، ومن تلاميذه عشرات من هذه الطبقة كما سترى من ترجمته الآتية بعد. وكتابه ( العواصم من القواصم ) من خيرة كتبه، ألفه سنة 536 وهو في دور النضوج الكامل، بعد أن امتلأت الأمصار بمؤلفاته وبتلاميذه الذين صاروا في عصرهم أئمة يهتدى بهم. وهذا الكتاب في جزأين متوسطي الحجم، ومبحث (الصحابة) الذي نقدمه لقرائنا هو أحد مباحث جزئه الثاني ( من ص98 إلى ص193 من طبعة المطبعة الجزائرية الإسلامية في مدينة قسنطينة بالجزائر سنة 1347 ) وكان قد وقف على تلك الطبعة شيخ علماء الجزائر الأستاذ عبد الحميد بن باديس رحمه الله. ومما يؤسف له أن الأصل الذي اعتمد عليه في تلك الطبعة كان مكتوبا بقلم ناسخ غير متمكن، فوقعت فيه تحريفات لفظية وإملائية حرصنا على ردها إلى أصلها، بل إن النسخة المخطوطة التي طبعت عليها طبعة الجزائر يظهر أن المجلد وضع بعض ورقاتها في غير مواضعها، فأرجعناها إلى ما دل عليه السياق في القول، والترتيب في المسائل. وفيما عدا ذلك التزمنا الأمانة في عرض الكتاب إلى أقصى غاية. وعلقت على كل بحث منه بما يزيده وضوحا، مقتبسا ذلك من أوثق المراجع وأمهات الكتب الإسلامية المعتمدة، مبينا في كل نص مأخذه بكل أمانة ووضوح.
وأرجو الله أن يجزل ثواب الإمام ابن العربي على دفاعه هذا عن أصحاب رسول الله الذين حملوا معه  أعظم رسالات الله، وكانوا أصدق أعوانه على تبليغها في حياته، وبعد أن اختاره الله إليه. بل كانوا سبب كياننا الإسلامي، ولهم ثواب انتمائنا إلى هذه الملة الحنيفية السمحة التي لا عيب لها غير تقصيرنا في التخلق بآدابها في أنفسنا، وتعميم سننها في بيوتنا ومجتمعنا وأسواقنا ومحاكمنا ودور حكمنا. وعسى أن يكون في قراء هذا الكتاب من يعاهد الله على أن يكون خيرا منا عملا، وأصح منا علما، وعلى الله قصد السبيل.
جزيرة الروضة (تجاه الفسطاط ): 3 رمضان 1371
محب الدين الخطيب
( 1303 - 1389 )

القاضي أبو بكر بن العربي
مؤلف العواصم من القواصم
468 - 543
نشأته الأولى
هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي المعافري.
ولد في إشبيلية - لما كانت كبرى عواصم الأندلس - في يوم الخميس 22 من شهر شعبان سنة 468 في بيت من أعظم بيوتها بعد بيت مليكها المعتمد بن عباد. وكان أبوه عبد الله بن محمد بن العربي من وجوه علماء الدولة وكبار أعيانها، كما كان خاله أبو القاسم الحسن بن أبي حفص الهوزني في مكانة رفيعة من المجتمع الأندلسي. غير أن هذين البيتين كانا على طرفي نقيض في مشربهما السياسي: فوالد ابن العربي من أولياء الدولة، المتمتعين بالمكانة والوجاهة عند ولي أمرها، وخاله من أهل التوثب والطموح، وله مشاركة التآمر على المعتمد لقتله والده أبا حفص الهوزني، فكان خال ابن العربي على اتصال بيوسف بن تاشفين صاحب المغرب يواصل تحريضه على ابن عباد " حتى أزال ملكه، ونثر سلكه، وسبب هلكه " كما يقول الشهاب المقري في (نفح الطيب) ( ) .
في هذه البيئة الكريمة العزيزة بالعلم نشأ ابن العربي، ومنها أطل على الدنيا في السنوات الأولى من حياته. وعن هذين الرجلين -أبيه وخاله- تلقى ثقافته الأولى وأساليب تربيته، يساعدهما على ذلك أستاذه الخاص أبو عبد الله السرقسطي. وقد أعانت هؤلاء الثلاثة على مهمتهم في تكوين صفات المروءة فيه مواهب ممتازة من الذكاء وسعة المدارك ودماثة الخلق تحلى منها هذا الناشئ الممتاز بكل ما يهيئ له نضوج رجولته المبكرة، حتى قال هو عن نفسه ( حذقت القرآن وأنا ابن تسع سنين، ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشر سنة وقد قرأت من الأحرف -أي من القراءات- نحو من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه. وتمرنت في الغريب والشعر واللغة ).
رحلته عن إشبيلية
ولما بلغ السابعة عشر قضى الله بسقوط دولة آل عباد في سنة 485، فخرج به أبوه من إشبيلية يوم الأحد مستهل ربيع الأول قاصدا شمال إفريقية فكان أول نزولهم في ثغر أنشئ من سنين قريبة على ساحل بلاد الجزائر، وهو ثغر (بجاية) الذي اكتشف مكانه محمد بن البعبع من رجال تميم بن المعز بن باديس، واتفق على إنشائه وتمصيره في سنة 457 مع الناصر بن علناس ابن عم تميم المنافس له، وجعلا هذا المرفأ ملتقى الطرق على البحر الأبيض بين الأندلس والمغرب والجزائر وتونس، فنزل ابن العربي مع والده وأسرته في ثغر بجاية ولبثوا فيه مدة تتلمذ فيها ابن العربي على كبير علماء هذا البلد أبي عبد الله الكلاعي، ثم ركبوا البحر مشرقين إلى ثغر (المهدية)، وفيها أخذ فتانا عن عالمها أبي الحسن بن علي بن محمد بن ثابت الحداد الخولاني المقرئ، قال ابن العربي ( فكنت أحضر عليه كتابه المسمى بالإشارة وشرحها وغيرهما من تآليفه، وكان في ذلك بالمهدية في شهور سنة 485) وفي المهدية أيضا أخذ عن الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازري التميمي (453 - 536).
تعرض سفينته للغرق
ولما أبحروا من المهدية قاصدين السواحل المصرية تجددت لهم النكبة بهياج البحر عليهم، فوقعوا من ذلك في حادث استحسنت أن يقف القارئ على وصفه من قلم ابن العربي نفسه عندما ألف تفسيره (قانون التأويل) ( ) قال: " وقد سبق في علم الله أن يعظم علينا البحر بِزَوْله ( ) ويغرقنا في هوله. فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر. وانتهينا بعد خطب طويل- إلى بيوت بني كعب بن سُليم- ونحن من السغب، على عطب. ومن العري، في أقبح زي.
وقد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها ( ) ودسَّمت الأدهان وبرها وجلدتها. فاحتزمناها أُزُرا، واشتملناها لُفعا ( ) تمجنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا، فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديه وسقانا وأكرم مثوانا، وكسانا بأمر ( ) حقير ضعيف، وفن من العلم ظريف. وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاة ( ) فعل السامد اللاه. فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته ( ) إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار. ووقفت بإزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خُلس بطالة، مع غلبة الصبوة والجهالة. فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه. فلمحوني شزرا، وعظمتُ في عيونهم بعد أن كنت نزرا. وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام. فاستدناني، فدنوت منه. وسألني: هل لي بما هم فيه بصر ؟ فقلت: "لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر. حرِّك تلك القطعة" ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم تترى، حتى هزمهم الأمير، وانقطع التدبير. فقالوا: ما أنت بصغير. وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
وفي الهجر، فهو الدهر يرجو ويتقي

فقال: لعن الله أبا الطيب، أويشكُّ الرب ؟ ! فقلت له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير، إنما أراد بالرب هنا الصاحب. يقول: ألذ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال، وبلوغ الغرض من الآمال، على ريب. فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، وتقاة لما يقطع به، كما قال:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
فأين حلاوات الرسائل والكتب

وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرَّك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض. وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألونني كم سني ؟ ويكشفونني عني. فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي ( ) . وأعلمت الأمير بأن أبي معي، فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه ( ) . فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمعه. وجاء كل خوان، بأفنان الألوان. فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب ( ) مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذانا من العطب. وهذا الذي يرشدكم- إن غفلتم- إلى الطلب. وسرنا، حتى انتهينا إلى ديار مصر. وسترى عند كلامنا على مؤلفات ابن العربي أن منها كتابا كبيرا سماه "ترتيب الرحلة، للترغيب في الملة" ومما يؤسف له أن هذا الكتاب يعتبر الآن مفقودا، ولكن الذي اطلعنا عليه من نماذجه المنقولة عنه في تراجمه وغيرها من كتب العلماء يدل على أنه من الذخائر النفيسة التي تصف الكثير من أحوال المجتمع الإسلامي وعمران أوطانه في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وتنوه بدخائل أعلامه من العلماء والحكام بقدر ما اطلع عليه هذا العالم الرحالة الدقيق النظر الذكي الفطرة الحريص على الإلمام بجميع أبواب المعرفة، ولو وقع لنا كتاب رحلته، لانتفعنا منه كثيرا في تدوين ترجمته، ولا سيما في السنوات التسع (485 - 493) التي قضاها في خارج الأندلس، بين حادثة سقوط دولة آل عباد والوقت الذي شاء الله له أن يعود فيه إلى وطنه.
مروره بالديار المصرية
ومما لا شك فيه أن ابن العربي ووالده لم يطيلا اللبث في كرم مضيفهم أمير قبيلة بني كعب بن سُليم، فتوجها قاصدين ديار مصر التي كان طريقهم عليها أيضا عند انتهاء الرحلة. وكان الحكم في مصر عند وصولهما إليها آخر سنة 485 للمستنصر أبي تميم معد حفيد الحاكم، وكان علماء أهل السنة قليلي الظهور، حتى إن ابن العربي كان يذهب إلى القرافة الصغرى- قريبا من قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعي - ليلقى فيها شيخه مسند مصر القاضي أبا الحسن علي بن الحسن بن الحسين بن محمد الخلعي الموصلي الأصل المصري المولد الشافعي (405 - 492) ولهذا العالم ترجمة في حرف العين من (وفيات الأعيان) وفي (طبقات الشافعية) لابن السبكي (3: 296 ) وفي (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي (3: 398 ). وممن لقيهم في مصر وأخذ عنهم أبو الحسن بن شرف، ومهدي الوراق، وأبو الحسن بن داود الفارسي.
وصوله إلى بيت المقدس
وواصل ابن العربي رحلته مع أبيه إلى بيت المقدس، وكان فيها الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الفهري (451-520) من كبار علماء المالكية الأندلسيين، وهو كابن العربي خرج من الأندلس إلى المشرق فذهب إلى العراق وجاء منها إلى دمشق وبيت المقدس، فلقيه فيها ابن العربي واستفاد منه كثيرا قبل مجيء الطرطوشي إلى الإسكندرية. ويقول ابن العربي فيما نقله عنه صاحب نفح الطيب (1: 341): تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة ( ) المرفوع: {إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم} ( ) . فقالوا: " منهم ". فقال: " بل منكم (أي من الصحابة) لأنكم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون عليه أعوانا ".
وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، واقتحموا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال  في الصحيح: {لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه} ( ) ، فتراجعنا القول، وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح ( ) وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها- من فروع الدين-يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضا انتهاؤه... حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف، وباع نفسه في الدعاء إليه، كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاء إلى الله.. إلخ.
وفي بيت المقدس أيضا لقي ابن الكازروني وقال عنه: إنه كان يأوي إلى المسجد الأقصى، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى فيسمع من الطور ( ) فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا دون قراءته إلا الإصغاء إليه.
ونقل صاحب نفح الطيب (1-340) قوله: " شاهدت المائدة بطور زيتا مرارا وأكلت عليها ليلا ونهارا وذكرت الله سبحانه فيها سرا وجهارا " ( ) .... وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول، وكان الناس يقولون: مسخت صخرة والذي عندي أنها صخرة في الأصل وقطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء وكل ما حولها حجارة مثلها. وكان ما حولها محفوفا بقصور نحتت في ذلك الحجر الصلد، بيوت أبوابها ومجالسها منها مقطوعة فيها ( ) . وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس.... إلخ
مروره بدمشق
وتقدم ابن العربي في رحلته إلى الديار الشامية، فأقام في دمشق وأخذ عن علمائها، ومنهم شيخ الشافعية الحافظ المتبتل أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي (409-490) له ترجمة في حرف النون من تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر، وفي طبقات الشافعية (4-27)، وشذرات الذهب (3-395-396).
وعن الحافظ أبي محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني الأنصاري الدمشقي (444-524) المترجم بحرف الهاء من تاريخ دمشق، وشذرات الذهب (4-73) وعن أبي الفضل أحمد بن علي بن الفرات المتوفى سنة 494 وهو من علماء الشيعة. ولقي في الديار الشامية من علمائها أبا سعيد الرهاوي وأبا القاسم بن أبي الحسن القدسي، وأبا سعيد الزنجاني.
ومن عجائب ما ذكره عن عمران دمشق في زمنه وتقدمها في أسباب الرفاهة والصيانة والنعيم ما نقله عنه صاحب نفح الطيب (1-338) وهو أنه دعي لتناول الطعام في بيوت بعض الأكابر، فرأى نهرا جاريا إلى موضع جلوسهم ثم يعود إلى ناحية أخرى. قال " فلم أفهم معنى ذلك، حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا، فأخذها الخدم ووضعوها بين أيدينا. فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها في النهر الراجع، فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم من تلك الناحية. فعلمت السر، وإن هذا لعجيب ".
وصوله إلى بغداد واشتغاله بطلب العلم
ورحل مع أبيه من دمشق قاصدا دار الخلافة العباسية بغداد، وكان الخليفة في السنتين الأوليين من هذه الرحلة المقتدي بالله، وكان دينا خيرا قوي النفس عالي الهمة من نجباء بني العباس، وظهرت في أيامه خيرات كثيرة وآثار حسنة. ومن محاسنه أنه نفى المغنيات والخواطئ، وأمر بالمحافظة على حرم الناس وصيانتها، وكانت قواعد الخلافة باهرة وافرة الحرمة. ثم بويع بعده للمستظهر بالله أحمد وكان مهذبا مثقفا ضليعا في الأدب بليغ التوقيعات ( ) إلا أن زمنه كثر فيه الاضطراب. وفي ذلك الجو أخذ ابن العربي في توسيع ثقافته وتلقي العلوم عن أهلها، حتى برع في علوم السنة وتراجم الرواة وأصول الدين وأصول الفقه وعلوم العربية والآداب. وممن تتلمذ لهم: أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي المعروف بابن الطيوري (411 - 500) المحدث الصحيح الأصول الواسع العلم. وأبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أيوب البزاز (410 - 492). وأبو المعالي ثابت بن بندار البقال المقرئ (المتوفى 498). والقاضي أبو البركات طلحة بن أحمد بن طلحة العاقولي الحنبلي (432 - 512) وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي الشافعي (429 - 507) وكان يسمى " الجنيد " لورعه ودينه، وإليه انتهت رياسة الشافعية في بغداد فأنشد في أحد دروسه:
خلت الديار فسدتُ غير مسود
ومن العناء تفرُّدي بالسؤدد

ثم وضع المنديل على عينيه وجعل يبكي.
وتحدث ابن العربي عن إمام الشافعية هذا فذكر من محاسنه أنه سمعه ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر ويقول: "يقال في اللغة لا تقرب كذا (بفتح الراء) أي لا تتلبس بالفعل. وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع". قلت وهذا من دلائل صحة العلم وسعة الأفق، فإن العالم لا ينضج حتى يترفع عن العصبية المذهبية ويجنح إلى الحق والخير حيثما كانا، ومن كان الحق غرضه تحراه واحتج له وكان معه في كل حال. أما التعصب للطائفية والمذهب وبنيات الطريق، وتمحل الحجج الواهية لذلك، فمن دلائل صغر النفس وزغل العلم والأنس بالباطل.
ومن الذين أخذ عنهم ابن العربي في بغداد الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجا الميورقي العبدري المتوفى سنة 524 وكان من فقهاء مذهب داود الظاهري، قال القاضي ابن العربي: وهو أنبل من لقيته. وأخذ عن أبي الحسين أحمد بن عبد القادر اليوسفي (411-492)، وعن شيخ بغداد في الأدب أبي ذكريا يحيى بن علي التبريزي (421-502)، وأبي محمد جعفر بن أحمد بن حسين السراج الحنبلي (416-500) مؤلف كتاب مصارع العشاق. وعن أبي بكر محمد بن طرخان التركي الشافعي (446-513) تلميذ إمام الشافعية أبي إسحاق الشيرازي صاحب التنبيه والمهذب. وأخذ عن مسند العراق نقيب النقباء أبي الفوارس طراد بن محمد بن علي العباس الزينبي ( ) (398-491) وكان أعلى الناس منزلة عند الخليفة.
وكان يتردد على مجالس العلم العامة التي تعقد في دار وزير الخليفة عميد الدولة أبي منصور محمد بن فخر الدولة محمد بن محمد بن جهير المتوفى سنة 493 وسماه (الوزير العادل ). قال ابن العربي: كنت بمجلس الوزير، فقرأ القارئ : { •    } ( ) وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء بن عقيل إمام الحنابلة بمدينة السلام (431-513) وكان (مع إمامته في مذهب الإمام أحمد ) معتزلي الأصول ( ) فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة، فإن العرب لا تقول ( لقيت فلانا) إلا إذا رأته. فصرف أبو الوفاء وجهه مسرعا إلينا وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله لا يرى في الآخرة " فقد قال الله تعالى: {       } ( ) وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة " قال ابن العربي: وقد شرحنا وجه الآية في (كتاب المشكلين).
ويقول ابن سعيد أحد مترجمي ابن العربي أن ابن العربي أخذ عن ابن الأنماطي في الإسكندرية. والمعرفون بابن الأنماطي من العلماء كثيرون في مصر والعراق من أيام المزني تلميذ الشافعي في القرن الثالث إلى أواخر القرن السابع، لكني لم أهتد إلى واحد منهم في الإسكندرية زمن ابن العربي. والعالم المعاصر له من بني الأنماطي هو مفيد بغداد أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنماطي الحنبلي (462-538) من كبار شيوخ الحافظ أبي الفرج بن الجوزي فلعله هو الذي أخذ عنه ابن العربي في بغداد والتبس الأمر على مترجميه المغاربة فظنوه من بني الأنماطي المصريين ( ) .
وفي بغداد لقي ابن العربي محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي (المتوفى سنة524) الذي ادعى بعد ذلك المهدوية والنسب العلوي وقام بالتوطئة لعبد المؤمن بن علي (490-558) وكان المؤسس الأول لدولة الموحدين. ويقول مترجمو ابن العربي: إنه صحب ابن تومرت بالمشرق، فأوصى عليه عبد المؤمن، ( ) ولابد أن تكون هذه الوصاة بعد عودتهما إلى المغرب بزمن طويل، ولا شك عندنا أنه لم ينتفع بها، ولم يكن لها أثر في مجرى حياته. ولعل ذلك من نعم الله عليه، وفي آخر حياة ابن العربي أوذي بجيئته من الأندلس إلى مراكش دار سلطنة عبد المؤمن كما سترى في آخر هذا الفصل.
اتصاله بأبي حامد الغزالي
وقد لقي ابن العربي حجة الإسلام أبا حامد محمد الغزالي (450-505) في بغداد. وفي صحاري الشام بعد ذلك، والذي يظهر لي أنه عند وصول ابن العربي إلى بغداد في بداية رحلته -وكان الغزالي يدرس في النظامية وفي مجالسه العامة -اكتفى ابن العربي بالسماع منه في غمار الناس: ثم حج الغزالي ورحل في سنة 488 إلى دمشق متزهدا وألف فيها كتابه الإحياء ( ) وعاد إلى بغداد فنزل برباط أبي سعد بإزاء النظامية، وحينئذ اتصل به ابن العربي ولازمه. وبعد أن حج ابن العربي -كما سنذكره في الفقرة التالية - وعاد من العراق إلى الشام في طريقه إلى وطنه لقي الغزالي في صحاري الشام وهو في طور آخر. وعندنا النصوص التالية عن ابن العربي فيما يتعلق بالغزالي:
النص الأول: نقله المقري في نفح الطيب (2: 338) وفي أزهار الرياض (3: 91) عن (قانون التأويل) لابن العربي قال ( ورد علينا دانشمند-يعني الغزالي - فنزل برباط ابن سعد بإزاء المدرسة النظامية معرضا عن الدنيا، مقبلا على الله تعالى. فمشينا إليه، وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة..... إلخ).
والنص الثاني: في نفح الطيب (1: 343) عن ابن العربي أنه قال (وكان يقرأ معنا برباط أبي سعد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب خنثى له لحية وله ثديان وعنده جارية، فربك أعلم به، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته حاله ).
والنص الثالث: في شذرات الذهب (4: 13) قال: وذكر الشيخ علاء الدين علي بن الصيرفي في كتابه زاد السالكين: أن القاضي أبا بكر بن العربي قال: رأيت الغزالي في البرية وبيده عكازة وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته في بغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم، فدنوت منه فسلمت عليه وقلت له: يا إمام أليس تدريس العلم ببغداد خيرا من هذا ؟ فنظر إلي شزرا وقال: لما طلع بدر السعادة، في فلك الإرادة (أو قال: في سماء الإرادة) وجنحت شمس الوصول. في مغارب الأصول:
تركت هوى ليلى وسعدى بمنزلي
ونادت بي الأشواق: مهلا فهذه
غزلت لهم غزلا دقيقا، فلم أجد


وعدت إلى تصحيح أول منزل
منازل من تهوى، رويدك فانزل
لغزلـي نسـاجا، فكسرت مغزلـي

ومن شيوخ ابن العربي في بغداد دانشمند آخر كانوا يسمونه (دانشمند الأكبر) وهو إسماعيل الطوسي، ويقولون للغزالي (دانشمند الأصغر) نقله المقري في أزهار الرياض (3-91) عن أبي عبد الله محمد بن غازي من المغرب. ومعنى دانشمند بالفارسية (العارف).
ذهابه إلى الحج، وعودته إلى بغداد
وذهب ابن العربي مع أبيه من بغداد إلى الحرمين الشريفين في موسم سنة 489 فحج بيت الله الحرام، وأخذ في مكة عن محدثها ومفتيها أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين الطبري الشافعي (418-498). ومما تحدث به ابن العربي عن مكة قوله (كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة 489، وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرا، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان، ففتح الله لي ببركته في المقدار الذي يسره لي من العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله لي فيهما، ولم يقدر فكان صغوي للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق برحمته).
وعاد ابن العربي إلى بغداد مع أبيه، فلبث فيها قريبا من سنتين قضاهما في صحبة الغزالي وهو في طوره الأوسط، بين حالة الظهور الأولى وحالة العزلة والسياحة في النهاية.
العودة بطريق دمشق وفلسطين والإسكندرية
وفي سنة 492 كان والد ابن العربي قد أثرت فيه الشيخوخة، فخرجا من بغداد متوجهين إلى الشام وفلسطين، فجدد ابن العربي العهد - في دمشق وبيت المقدس وكثير من المدن الشامية - مع من كان عرفهم وأخذ عنهم من شيوخ هذه البلاد، وتعرف بآخرين غيرهم. ثم جاء إلى الإسكندرية، وكانت فيها منية أبيه في أوائل سنة 493 فدفن في الثغر الإسكندري. وكان الإمام أبو بكر الطرطوشي في تلك المدة قد نزل الإسكندرية واستوطنها وكثر فيها تلاميذه ومريدوه من أهل السنة حتى بلغوا المئات لما وجدوا فيه من العزم على إحياء طريق أهل السنة بعد أن اعتراها الوهن وأصيبت بالإهمال تحت حكم العبيديين، فأقلق نشاط الطرطوشي ولاة الأمور العبيديين في القاهرة، وكانت رئاستهم قد آلت من سنة 487 إلى المستعلي أحمد بن المستنصر أبي تميم معد، وأخذ نجمهم بالأفول في الشام باستيلاء الأتراك على بعض البلاد، والإفرنج على البعض الآخر. ولم يكن للمستعلي حل ولا ربط مع وزيره الأفضل، فاضطهد الأفضل أبا بكر الطرطوشي فيما بعد بسبب كثرة أتباعه مما لا محل لذكره هنا. فلما توفي والد ابن العربي بالإسكندرية رحل عنه عائدا إلى وطنه في سنة 493، ويقول الحافظ ابن عساكر: إن ابن العربي ابتدأ بتأليف كتابه (عارضة الأحوذي ) عندما غرب من الإسكندرية فكان أول مؤلفاته على ما نعلم.
وصوله إلى إشبيلية
ولما وصل ابن العربي إلى وطنه إشبيلية كان الحكم فيها لا يزال ليوسف بن تاشفين، واستمر على ذلك إلى أن مات سنة 500. فاستقبل العلماء ورجال الثقافة والأدب في إشبيلية وما جاورها من عواصم الأندلس هذا الغائب القادم بعلوم المشرق استقبالا لا نظير له، وقصده طلاب العلم وأذكياء الأندلس من كل حدب وصوب، وتحول منزله إلى جامعة، وعقدت له حلقات الدرس في الجوامع، وكان ممن أخذ عنه وتلقى عليه طائفة من كبار علماء الإسلام: منهم قاضي المغرب وحافظه القاضي عياض بن موسى اليحصبي مؤلف (الشفا) و (مشارق الأنوار)، وابنه القاضي محمد بن عياض، والحافظ المؤرخ أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال، والإمام الزاهد العابد أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مجاهد الإشبيلي، وأبو جعفر بن الباذش، وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم الخزرجي، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل القيسي، وأبو الحسن بن النعمة، وأبو بكر محمد بن خير الأموي الإشبيلي، وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حبيش، والإمام عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي شارح السيرة، وأبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الصقر الأنصاري، وأبو الحسن علي بن عتيق القرطبي، وأبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الحوفي، وأبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الخراط، وأبو بكر محمد بن محمد اللخمي البلنقي، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الغاسل الغرناطي، وأبو الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن بقي، وأبو العباس أحمد بن أبي الوليد بن رشد، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد العبدري شارح صحيح مسلم، وأبو المحاسن يوسف بن عبد الله بن عياد، والحافظ أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم العبدري، والقاضي أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء اللخمي وأبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن قرقول شارح مشارق الأنوار، وعالم لا يحصى من نمط هؤلاء الأجلاء منهم من ذكر مترجمو ابن العربي أسماءهم ومنهم من لم يسموهم لكثرتهم أو لأنهم من تلاميذه المتأخرين في الزمن عندما بلغ هذا الإمام سن الشيخوخة. ولعل من هؤلاء راوي كتابه (العواصم من القواصم) صالح بن عبد الملك بن سعيد الذي ذكر في أول الكتاب أنه قرأه على ابن العربي. وقد قلنا إن أبا بكر بن العربي كان بعد عودته من المشرق إلى الأندلس جامعة يصدر عنها العلم إلى كل معاصر له ممن يستطيع لقاءه، فهو مربي الجيل الذي عاش معه في تلك الديار. قال مترجموه: بقي ابن العربي يفتي ويدرس أربعين سنة، وقبل أن يتولى القضاء صدر له التقليد من السلطات الرسمية بأن يتولى منصب المشاور للقضاء، وهو منصب رفيع يصدر به ما يسمى الآن في الديار المصرية (مرسوما) وما يسمى في المغرب (ظهيرا) ومن نماذج مرسوم هذا المنصب ما تراه في هامش ص89 من كتاب (غابر الأندلس وحاضرها) للأستاذ محمد كرد علي وفي هامش (01، 162) من (شجرة النور الزكية) لمخلوف. وكان لا يباح للعالم في الأندلس أن يفتي إلا إذا استظهر (الموطأ) و (المدونة) أو عشرة آلاف حديث، ويتميز حينئذ بلبس القلنسوة ويقال له المقلس.
ولما كانت حلقة ابن العربي تخرج علماء الجيل، كانت مملكة علي بن يوسف بن تاشفين تزداد اتساعا واستفحالا بما كان يستحلفه من بلاد ملوك الطوائف، وبما استرده أو فتحه من الأسبانيين. وكان الوالي على شرق الأندلس وجنوبها لعلي بن يوسف بن تاشفين أخوه تميم بن يوسف، وفي سنة 513 انتعش الأسبانيون وأخذوا في إزعاج البلاد الإسلامية فجاز علي بن يوسف بن تاشفين من المغرب إلى الأندلس وقاتلهم وانتصر عليهم وعاد سنة 515، فاستمرت الحال على ذلك إلى أن توفي تميم بن يوسف سنة 520، فولى علي بن يوسف بن تاشفين على الأندلس ابنه تاشفين بن علي، وفي هذا الدور كان ابن العربي قد بلغ القمة في مكانته العلمية بما ظهر من مؤلفاته العظيمة، وما انتشر في ربوع الأندلس والمغرب من تلاميذه ومريديه، فدعي في رجب سنة 528 لتولي القضاء في إشبيلية. وقد أجمعت كلمة الذين تحدثوا عنه- كالقاضي عياض، وابن بشكوال، وابن سعيد وجميع مؤرخي الأندلس-على أنه كان مثال العدل والاستقامة وحسن القيام بأمر القضاء، قال القاضي عياض: فنفع الله به أهل إشبيلية لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهقة، مع الرفق بالمساكين، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واستمر في هذه المدة على إلقاء دروسه مع القيام بأمر القضاء ومواصلة التأليف. إلا أن وقته أصبح ضيقا حتى اضطر تلميذه الإمام الزاهد العابد أبو عبد الله الإشبيلي إلى أن ينقطع عن درسه. فقيل له في ذلك، فقال: (كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان).
إن المكانة التي وصل إليها ابن العربي في العلم وعزته وسيادته على القلوب-قبل ولايته القضاء-كانت مثار الحسد له والإحنة عليه من العلماء الرسميين الذين يتجرون بقشور العلم ليبنوا بها دنياهم، فلما ازدادت مكانته رفعة بالقضاء مضى فيه مجاهدا في سبيل العدل والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها من سبيل الله، يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة، ولين الكنف، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود. فازداد غيظ حاسديه، واشتد ضغن صغار النفوس عليه، ولا سيما أهل الجور والظلم والغصب الذين كان شديد الأحكام عليهم والأخذ منهم للمظلومين، منضما إليهم أهل المجون والفسقة الذين تناولهم ابن العربي بطريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وما كان أكثر أهل المجون يومئذ في إشبيلية. يدلك على ذلك حوار عن إشبيلية وقرطبة دار في مجلس منصور بن عبد المؤمن بين أبي الوليد بن رشد وأبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر: ما أدري ما نقول، غير أنه إذا مات عالم في إشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية.
وشعر ابن العربي في مدة قضائه بأن سور إشبيلية لا يقاوم أحداث الدهر إذا ألمت بالبلد ملمة، فعزم على ترميمه، وسد بعض الثلم الواقعة فيه. واتفق وقوع ذلك في زمن انصرفت فيه الحكومة عن مثل هذا الأمر. أو أن المال اللازم لذلك لم يكن متوافرا لديها، فخرج ابن العربي عن كل ما تحت يده من ماله الخاص ورصده لتحقيق هذا الواجب الملي العام، ودعا الأمة إلى البذل فيه، وأقبلت في خلال ذلك الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، فكان ابن العربي أول من خطر على باله الاستفادة من جلود الأضاحي في المصالح العامة، فحض الناس على أن يتبرعوا بجلود أضاحيهم لبناء هذا السور، فكان في ذلك موفقا، إلا أن أعداءه ومبغضي طريقته أثاروا العامة عليه بأساليبهم الخبيثة حتى نابه بداره في أحد الأيام مثل الذي ناب أمير المؤمنين عثمان بن عفان لما تألب البغاة عليه وهاجموه في داره. ولا شك أن هذه الحادثة وقعت له في آخر ولايته للقضاء، وقد أشار إليها في كتابنا هذا (العواصم من القواصم) الذي ألفه في سنة 536 فهي إذن وقعت بعد سنة 530 وقبل سنة 536 وقد قال في كتابنا هذا ص137-138 يصفها (ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك في الأرض منكر. واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب فتألبوا وألبوا وثاروا إلي، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا علي، ولولا ما سبق من حسن المقدار، لكنت قتيل الدار. وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها وصاية النبي  (أي بالكف عن القتال في الفتنة). الثاني الاقتداء بعثمان. والثالث سوء الأحدوثة التي فر منها رسول الله  المؤيد بالوحي ( ) .
فنكب ابن العربي في هذه الثورة ونهبت كتبه كلها. وانصرف أو صرف عن القضاء، وتحول مؤقتا إلى قرطبة. وكان له فيها تلاميذ ومريدون، فازداد بهذه الرحلة تلاميذه من أذكيائها ومريدوه.
وكان من حكمة الله في هذه النازلة أن تفرغ ابن العربي للعلم، وواصل إكمال مؤلفاته الكبيرة، وقد آن لنا أن نشير إلى تراثه العلمي. فمن مؤلفاته:
1 -أنوار الفجر في تفسير القرآن: ألفه في عشرين سنة وبلغ ثمانين ألف ورقة (أي مائة ألف وستين ألف صفحة) ورآه يوسف الحزام المغربي في القرن الثامن في خزانة أمير المسلمين السلطان أبي عنان فارس بمدينة مراكش (وكان يخدم السلطان في حزم كتبه ورفعها) فعد أسفاره فبلغت ثمانين سفرا، وقال بعض مترجمي ابن العربي إنه في تسعين مجلدا، وكان الناس يتداولون هذا التفسير أثناء تأليفه، فكلما انتهى من تأليف مقدار منه تناسخه الناس وتناقلوه.
2 -قانون التأويل في تفسير القرآن: كتاب كبير، كان موجودا ومنتشرا إلى القرن الحادي عشر الهجري، ونقل عنه المقري في نفح الطيب، ونقلنا عنه شيئا منه في هذه الترجمة.
3 -أحكام القرآن: كتاب نفيس طبعه سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ في إحدى المطابع المصرية.
4 -الأحكام الصغرى، منه مخطوط بمكتبة عبد الحي الكتاني بالمغرب.
5 -الناسخ والمنسوخ في القرآن: توجد منه مخطوطة بخزانة القرويين.
6 -كتاب المشكلين: مشكل الكتاب ومشكل السنة.
7 -كتاب النيرين: في الصحيحين.
8 -القبس: في شرح موطأ مالك بن أنس. وهو من أواخر مؤلفاته. ذكر فيه تفسيره (أنوار الفجر) وفي مكتبة الكتاني بالمغرب مخطوطة من القبس وفي مكتبة الجلاوي بمراكش مخطوطة.
9 -ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك: في مكتبة طلعت (793 حديث).
10 -عارضة الأحوذي، شرح جامع الترمذي: وهو من أول مؤلفاته، ويقول الحافظ ابن عساكر: إنه بدأ بتأليفه في منقلبه إلى المغرب عائدا من رحلته الكبرى. وقد اطلعنا على مخطوطة منه في مكتبة جمعية الهداية الإسلامية جاء بها من تونس صديقنا العلامة الجليل السيد محمد الخضر حسين. ثم طبع هذا الكتاب في مصر سنة 1350 مع جامع الترمذي في 14 جزءا.
11 -شرح حديث جابر في الشفاعة.
12 - حديث الإفك.
13 - العواصم من القواصم.
14 -شرح حديث أم زرع.
15 -الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب.
16 -السباعيات.
17 - المسلسلات.
18 -الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا.
19 -تفصيل التفضيل، بين التحميد والتهليل.
20 -التوسط في معرفة صحة الاعتقاد، والرد على من خالف السنة وذوي البدع والإلحاد في مجموع مخطوط بمكتبة عبد الحي الكتاني في المغرب (عقيدة ابن العربي ).
21 -المحصول في علم الأصول.
22 -الإنصاف، في مسائل الخلاف: عشرون مجلدا.
23 - شرح غريب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني.
24 -كتاب ستر العورة.
25 -الخلافيات.
26 - مراقي الزلف.
27 - سراج المريدين (وهو ينقل عنه ويشير إليه في العواصم من القواصم) ومنه مخطوطة بمكتبة عبد الحي الكتاني وبأولها خط المؤلف.
28 - نواهي الدواهي.
29 - العقل الأكبر للقلب الأصغر.
30 - الكافي في أن لا دليل على النافي.
31 -سراج المهتدين.
32 - تبيين الصحيح، في تعيين الذبيح.
33 - ملجأة المتفقهين، إلى معرفة غوامض النحويين.
34 -أعيان الأعيان.
35 -تخليص التلخيص.
36 - ترتيب الرحلة للترغيب في الملة: منه مخطوطة ناقصة في مكتبة عبد الحي الكتاني بالمغرب.
وفى خلال اشتغال ابن العربي بالتدريس والتأليف في العشر الأواخر من سني حياته، كان يتردد على الأدباء، ويساجلهم الأدب والشعر بقريحة وقادة، وبيان جزل، ولا يتسع هذا المقام لوصف مقامه الأدبي، ونكتفي بإيراد المثل الآتي لهذه الناحية: دخل عليه الأديب ابن صارة الشنتريني وبين يدي القاضي أبي بكر نار علاها رماد فقال لابن صارة: قل في هذه. فقال:
شابت نواصي النار بعد سوادها
وتسترت عنا بثوب رماد

ثم قال لابن العربي: أجز. فقال:
شابت كما شبنا وزال شبابنا
فكأنما كنا على ميعاد

ونختم هذه الترجمة قبل ذكر وفاته، بفصل عقده وصاف أدب أدباء الأندلس الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان القيسي في كتابه (المطمح) فقال يصف الفقيه الأجل الحافظ أبا بكر بن العربي:
(علم الأعلام الطاهر الأثواب، الباهر الألباب، الذي أنسى ذكاء إياس. وترك التقليد للقياس، وانتجع الفرع من الأصل، وغدا في يد الإسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها من الظل الوارف. فكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله، وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدرا في فلكها. وصدرا في مجلس ملكها. واصطفاه معتمد بني عباد، اصطفاء المأمون لابن أبي داود وولاه الولايات الشريفة وبوأه المراتب المنيفة. فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت ( ) وألقتهم منها وتخلت. رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق. فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه. فلم يسترد ذاهبا، ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا فعاد إلى الرواية والسماع. وما استفاد من إجالة تلك الأطماع. وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوَّح، وفي روض الشباب زهر ما صوَّح، فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا، ولازمه سائقا إليها وحاديا، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقايسه. فجد في طلبه، واستجد به أبوه منخرق أربه ثم أدركه حمامه ووارته هناك رجامه. وبقي أبو بكر متفردا، وللطلب متجردا، حتى أصبح في العلم وحيدا، ولم تجد عنه الرياسة محيدا، فكر إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقي، ومن عزة سقي، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلدها، ومن محاسن أنس أنبتها فيها وخلدها.
وفي السنوات الأخيرة من حياة ابن العربي مات علي بن يوسف بن تاشفين صاحب المغرب والأندلس، فقام بعده (سنة537) ابنه تاشفين الذي كان واليا لأبيه على الأندلس. وفي زمنه استفحلت دعوة الموحدين التي كان دعا إليها ابن تومرت مدعي المهدوية فتولاها بعده صنيعته عبد المؤمن بن علي، وتغلب عبد المؤمن على المعز تاشفين وشرده إلى وهران في غرب الجزائر، ثم قتله في وهران في رمضان سنة 539، وحاصر أخاه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين في مراكش سنة 540 مدة تسعة أشهر واستولى عليه وعليها في شوال سنة 541، فانقرضت دولة المرابطين أو الملثمين بعد أن حكمت 141 سنة. وهكذا شهد ابن العربي سقوط دولة آل عباد على يد يوسف بن تاشفين في أول شبابه. ثم شاهد سقوط دولة بني تاشفين على يد عبد المؤمن بن علي صاحب دولة الموحدين في أواخر شيخوخته. وعقب ذلك أخذت وفود مدائن الأندلس تفد على مراكش طالبة من عبد المؤمن الاستيلاء على بلادهم من بقايا المرابطين. وحضر في سنة 542 وفد (إشبيلية) برئاسة عظيمها وكبير علمائها الإمام أبي بكر بن العربي. ولسبب غامض لا نعرفه إلى الآن حبس عبد المؤمن هذا الوفد في مراكش نحو عام، ثم سرحوا، فأدركته منيته منصرفه من مراكش في موضع يسمي (أغلان) على مسيرة يوم من فاس غربا منها، فاحتمل ميتا إلى فاس في اليوم الثاني من موته، وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج، ودفن في يوم الأحد 7 ربيع الأول سنة 543 خارج المحروق أعلى مدينة فاس بتربة القائد مظفر. رحمه الله وأعلى مقامه في دار الخلود.

أصحاب رسول الله  عدول
بتعديل الله ورسوله لهم
ولا ينتقص أحدا منهم إلا زنديق
عقد الإمام الحافظ المحدث أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (392-463) فصلا نفيسا في كتابه ( الكفاية) الذي طبعه صاحب السمو نظام حيدر أباد الدكن بالهند سنة 1357 (ص46-49) واعتمده شيخ الإسلام الإمام الحافظ قاضي قضاة مصر شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني (773-852) في مقدمة كتابه (الإصابة) الذي طبعه في مصر سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ سنة 1328 (ج1ص10-11) ونحن نقتطف منه ما يلي:
عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن.
فمن ذلك قوله تعالى: {   •  ••} ( ) .
وقوله: {   •     ••     } ( ) .
وقوله: {                     } ( ) .
وقوله تعالى: {  •     •      } ( ) .
وقوله: {        • • } ( )
وقوله: {  •    •   } ( ) .
وقوله تعالى: {                                                     } ( ) .
ووصف رسول الله  الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم. فمن الأخبار المستفيضة عنه في هذا المعنى:
حديث عبد الله بن مسعود أن النبي  قال: {خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق أيمانهم شهادتهم، ويشهدون قبل أن يستشهدوا} ( ) ورواه أبو هريرة وعمران بن حصين أيضا.
وحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله  {لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه} ( ) .
وحديث ابن عباس عن رسول الله  {مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحدكم في تركه. فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيها أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة} .
وحديث سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله  {سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي: يا محمد، إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء: بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى} .
وحديث الإمام الشافعي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله  {إن الله اختارني واختار أصحابي فجعلهم أصهاري وجعلهم أنصاري. وإنه سيجيء في آخر الزمان قوم ينتقصونهم، ألا فلا تناكحوهم، ألا فلا تنكحوا إليهم، ألا فلا تصلوا معهم، ألا فلا تصلوا عليهم، عليهم حلت اللعنة} .
قال الحافظ الكبير أبو بكر بن الخطيب البغدادي: والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم. فلا يحتاج أحد منهم - مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم، إلى تعديل أحد من الخلق له.... على أنه لو لم يرد من الله  ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها - من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين - القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين. الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين.
أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسي الهمذاني، حدثنا صالح بن أحمد الحافظ قال: سمعت أبا جعفر أحمد بن عبدل يقول: سمعت أحمد بن محمد بن سليمان التستري يقول: سمعت أبا زرعة يقول: ( إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله  فاعلم أنه زنديق، لأن الرسول  عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة).
وأبو زرعة الذي أعلن زندقة من ينتقص أحدا من الصحابة، هو عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، من موالي بني مخزوم، كان أحد أعلام الأئمة. قال عنه الإمام أحمد: ما جاز الجسر أحفظ من أبي زرعة. وقال الإمام أبو حاتم إن أبا زرعة ما خلف بعده مثله. توفي سنة 264.

خطبة المؤلف
العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي 
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله
قال صالح بن عبد الملك بن سعيد:
قرأت على الإمام محمد أبي بكر بن العربي  قال:
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم إنا نستمد بك المنحة، كما نستدفع بك المحنة، ونسألك العصمة، كما نستوهب منك الرحمة.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويسر لنا العمل كما علمتنا، وأوزعنا شكر ما آتيتنا، وانهج لنا سبيلا يهدي إليك وافتح بيننا وبينك بابا نفد منه عليك، لك مقاليد السماوات والأرض وأنت على كل شيء قدير. ( ) .

قاصمة الظهر
وفاة النبي  ووقعها في نفوس الصحابة
بعد أن استأثر الله بنبيه  ـ وقد أكمل له ولنا دينه، وأتم عليه وعلينا نعمته، كما قال تعالى: {            }(1) [ المائدة: 3 ] وما من شيء في الدنيا يكمل إلا وجاءه النقصان، ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله خاصة، وذلك العمل الصالح والدار الآخرة، فهي دار الله الكاملة. قال أنس: " ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله  حتى أنكرنا قلوبنا " ( ).
واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر، فكان موت النبي  ( قاصمة الظهر ) ومصيبة العمر:
استخفاء علي وإهجار عمر
فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة ( ) .
وأما عثمان فسكت.
وأما عمر فأهجر وقال: " ما مات رسول الله  وإنما واعده الله كما واعد موسى ( ) وليرجعن رسول الله  فليقطعن أيدي أناس وأرجلهم " ( ) .
حوار العباس وعلي في مرضه 
وتعلق بال العباس وعلي بأمر أنفسهما في مرض النبي  فقال العباس لعلي: " إني أرى الموت في وجوه بني عبد المطلب، فتعال حتى نسأل رسول الله  فإن كان هذا الأمر فينا علمناه ( ) .
وتعلق بال العباس وعلي بميراثهما فيما تركه النبي  من فدك وبني النضير وخيبر ( ).
اضطراب أمر الأنصار واجتماع سقيفة بني ساعدة
واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين ( ) .
وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد بالجرف ( ) .

عاصمة
تدارك الله الإسلام والأنام بأبي بكر الصديق
فتدارك الله الإسلام والأنام ـ وانجابت [ الغمة ] انجياب الغمام، ونفذ وعد الله باستئثار رسول الله ( ) وإقامة دينه على التمام، وإن كان قد أصاب ما أصاب من الرزية الإسلام ـ بأبي بكر الصديق  ( ) .

عاصمة
رباط جأش أبي بكر في اليوم الرهيب
وكان ـ إذ مات النبي  ـ غائبا في ماله بالسنح ( ) فجاء إلى منزل ابنته عائشة رضي الله عنها ـ وفيه مات النبي  ـ فكشف عن وجهه، وأكب عليه يقبله وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيا وميتا ـ والله لا يجمع الله عليك الموتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها، ثم خرج إلى المسجد ـ والناس فيه، وعمر يأتي بهجر من القول كما قدمنا ـ فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ـ ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ". ثم قرأ: {            •                   } ( ) (آل عمران: 144) فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل إلا ذلك اليوم ( ) .
موقفه في سقيفة بني ساعدة
واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتشاورون، ولا يدرون ما يفعلون، [ وبلغ ذلك المهاجرين ] فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر: بل نمشي إليهم، فسار إليهم المهاجرون، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فتراجعوا الكلام، فقال بعض الأنصار: منا أمير ومنكم أمير ( ) . فقال أبو بكر كلاما كثيرا مصيبا، يكثر ويصيب، منه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن رسول الله  قال: {الأئمة من قريش} ( ) وقال: {أوصيكم بالأنصار خيرا: أن تقبلوا من محسنهم، وتتجاوزوا عن مسيئهم} ( ) إن الله سمانا ( الصادقين ) ( ) وسماكم ( المفلحين ) ( ) وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا فقال: {         } ( ) ( التوبة: 119) إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة والأدلة القوية، فتذكرت الأنصار ذلك وانقادت إليه، وبايعوا أبا بكر الصديق  ( ) .
وقال أبو بكر لأسامة: انفذ لأمر رسول الله  فقال عمر: كيف ترسل هذا الجيش والعرب قد اضطربت عليك ! ؟ فقال: لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددت جيش أنفذه رسول الله  . ( ) .
موقفه من مانعي الزكاة
وقال له عمر وغيره: إذا منعك العرب الزكاة فاصبر عليهم. فقال: " والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله  لقاتلتهم عليه. والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة " ( ) .
قيل: ومع من تقاتلهم ؟ قال: " وحدي، حتى تنفرد سالِفَتي " ( ) .
تنظيمه جيش الخلافة
وقدَّم الأمراء على الأجناد والعمال في البلاد مختارا لهم، مرتئيا فيهم، فكان ذلك من أسد عمله، وأفضل ما قدمه للإسلام ( ) .
حديث لا نورث ما تركناه صدقة
وقال لفاطمة وعلي والعباس: إن رسول الله  قال: {لا نورث ما تركناه صدقة}( ) . فذكر الصحابة ذلك ( ) .

حديث لا يدفن نبي إلا حيث يموت
وقال سمعته  يقول: {لا يدفن نبي إلا حيث يموت} ( ) . وهو في ذلك كله رابط الجأش، ثابت العلم والقدم في الدين.
ثم استخلف عمر، فظهرت بركة الإسلام، ونفذ الوعد الصادق في الخليفتين ( ) .
جعل عمر شورى في اختيار الخليفة بعده
ثم جعلها عمر شورى، فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الأمر حتى ينظر ويتحرى فيمن يقدم ( ) فقدم عثمان، فكان عند الظن به: ما خالف له عهدا، ولا نكث عقدا، ولا اقتحم مكروها ولا خالف سنة ( ) .
سجايا عثمان وصفاته الممتازة
وقد كان النبي  أخبر بأن عمر شهيد، وبأن عثمان شهيد، وبأن له الجنة على بلوى تصيبه ( ) .
وهو وزوجه رقية ابنة رسول الله  أول مهاجر بعد إبراهيم الخليل  دخل به في باب " أول من... ( ) " وهو علم كبير جمعه الناس.
ولما صحت إمامته قتل مظلوما ( ) وليقضي الله أمرا كان مفعولا.
ما نصب حربا ( ) ولا جيش عسكرا ( ) ولا سعى إلى فتنة ( ) ولا دعا إلى بيعة ( ) ولا حاربه ولا نازعه من هو من أضرابه ولا أشكاله ( ) ولا كان يرجوها لنفسه، ولا خلاف أنه ليس لأحد أن يفعل ذلك في غير عثمان، فكيف بعثمان  !.
وصف إجمالي لدعاة الفتنة
وقد سموا من قام عليه، فوجدناهم أهل أغراض سوء حيل بينهم وبينها ( ) فوعظوا وزجروا ( ) وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد ابن الوليد ( ) وتوعدهم حتى تابوا ( ) فأرسل بهم إلى عثمان فتابوا ( ) . وخيرهم فاختاروا التفرق في البلاد، فأرسلهم: فلما سار كل إلى ما اختار أنشأوا الفتنة، وألبوا الجماعة، وجاءوا إليه ( ) بجملتهم، فاطلع عليهم من حائط داره ووعظهم، وذكرهم، وورعهم عن دمه ( ) وخرج طلحة يبكي ويورع النـاس ، وأرسل علي ولديه ( ) وقال الناس لهم ( ) إنكم أرسلتم إلينا " أقبلوا إلى من غير سنة الله ( ) "، فلما جئنا قعد هذا في بيته - يعنون عليا - وخرجت أنت ( ) تفيض عينيك. والله لا برحنا حتى نريق دمه. وهذا قهر عظيم، وافتئات على الصحابة، وكذب في وجوههم وبهت لهم، ولو أراد عثمان لكان مستنصرا بالصحابة، ولنصروه في لحظة ( ) وإنما جاء القوم مستجيرين متظلمين ( ) . فوعظهم، فاستشاطوا. فأراد الصحابة ألَّهُمْ ( ) فأوعز إليهم عثمان ألا يقاتل أحد بسببه أبدا، فاستسلم، وأسلموه برضاه.
وهي مسألة من الفقه كبيرة: هل يجوز للرجل أن يستسلم، أم يجب عليه أن يدافع عن نفسه ؟
وإذا استسلم وحرَّم على أحد أن يدافع عنه بالقتل، هل يجوز لغيره أن يدافع عنه ولا يلتفت إلى رضاه ؟ اختلف العلماء فيها.
فلم يأت عثمان منكرا لا في أول الأمر، ولا في آخره، ولا جاء الصحابة بمنكر. وكل ما سمعت من خبر باطل إياكَ أن تلتفت إليه ( ) .

قاصمة
المظالم والمناكير
قالوا متعدين، متعلقين برواية كذابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم ومناكير، منها:
1 - ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه.
2 - ولابن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه.
3 - وابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق المصاحف.
4 - وحمى الحمى.
5 - وأجلى أبا ذر إلى الربذة.
6 - وأخرج من الشام أبا الدرداء.
7 - ورد الحكم بعد أن نفاه رسول الله  .
8 - وأبطل سنة القصر في الصلوات في السفر.
9 - 12 - وولى معاوية، [ وعبد الله بن عامر بن كريز ] ( ) ومروان. وولى الوليد بن عقبة وهو فاسق ليس من أهل الولاية.
13 - وأعطى مروان خمس أفريقية.
14 - وكان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا ( ) .
15 - وعلا على درجة رسول الله  وقد انحط عنها أبو بكر وعمر.
16 - ولم يحضر بدرا، وانهزم يوم أحد، وغاب عن بيعة الرضوان.
17 - ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان ( الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة، وحرضه على عمر حتى قتله ).
18 - وكتب مع عبده على جمله كتابا إلى ابن أبي سرح في قتل من ذكر فيه.

عاصمة
موقف عثمان من عبد الله بن مسعود وعمار
هذا كله باطل سندا ومتنا، أما قولهم " جاء عثمان بمظالم ومناكير " فباطل ( ) .
1 - 2 - وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور ( ) وضربه لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدا ( ) .
وقد اعتذر عن ذلك العلماءُ بوجوه لا ينبغي أن يُشتَغل بها لأنها مبنية على باطل ( ) ولا يُبنى حق على باطل، ولا نُذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا آخر له.
جمعه للقرآن
3 - وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى، وخصْلتُه الكبرى، وإن كان وَجدها كاملة، لكنه أظهرها وردَّ الناس إليها، وحسم مادة الخلاف فيها. وكان نفوذُ وعد الله بحفظ القرآن على يديه حسبما بيناه في كتب القرآن وغيرها ( ) .
روى الأئمة بأجمعهم ( ) أن زيد بن ثابت قال:أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ( ) فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: " إن عمر أتانا فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتلُ بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تجمع القرآن. قلتُ لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله  ؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيتُ في ذلك الذي رأى عمر ".
قال زيد: قال أبو بكر: " إنك رجل شاب عاقل لا نتّهِمُك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله  . فتتبَّع القرآن فاجمعه ". فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمروني به من جمع القرآن. قلتُ: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله  ؟ قال عمر: " هذا والله خير ". فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعتُ القرآنَ أجمعهُ من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال ( ) حتى وجدتُ آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {     } ( ) حتى خاتمة براءة.
فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر. حتى قدم حُذيفة بن اليمان على عثمان ( ) وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذْرِبَيجان مع أهل العراق، فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى: فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف ( ) .
وقال عثمان للرهط القُرشيين الثلاثة: " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم " ففعلوا.
حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمانُ الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أُفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يُحرق.
قال ابن شهاب ( ) " وأخبرني خارجةُ بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال: " فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنتُ أسمع رسول الله  يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة الأنصاري {         } ( ) فألحقناها في سورتها من المصحف ".
وأما ما روي أنه حرّقها أو خرّقها - بالحاء المهملة أو الخاء المعجمة، وكلاهما جائز - إذا كان في بقائها فساد، أو كان فيها ما ليس من القرآن، أو ما نسخ منه، أو على غير نظمه، فقد سلّم في ذلك الصحابة كلهم: إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال: " أما بعد، فإن الله قال {     •   } ( ) وإني غالٌّ مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل ". وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه، وأن يثبت ما يعلم فيه. فلما لم يُفعل ذلك له قال ما قال، فأكرهه عثمان على رفع مصحفه، ومحا رسومه فلم تثبت له قراءة أبدا، ونصر الله عثمان والحق بمحوها من الأرض ( ) .
ما أوخذ به عثمان من حماية الحمى لإبل الصدقة
4 - وأما الحِمى، فكان قديما ( ) فيقال إن عثمان زاد فيه لما زادت الرعية. وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجة.
أبو ذر ومسيره إلى الربذة
5 - وأما نفيُه أبا ذرّ إلى الرَّبذة فلم يفعل ( ) كان أبو ذر زاهدا، وكان يقرّع عمال عثمان، ويتلو عليهم {             } ( ) [التوبة: 34] ، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم، وهو غير لازم. قال ابن عمر وغيره من الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز ( ) فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام ( ) فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: " لو اعتزلتَ ". معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطا وللعزلة مثلها ( ) ومن كان على طريقة أبي ذرّ فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلِّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهدا فاضلا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا ( ) فسبحان مرتب المنازل.
ومن العجب أن يؤخذ عليه في أمر فعله عمر، فقد رُوي أن عمر بن الخطاب  سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استُشهد، فأطلقهم عثمان، وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله  ( ) .
ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام، وكان أبو ذر يطلق من الكلام ما لم يكن يقوله في زمان عمر، فأعلم معاوية بذلك عثمان، وخشي من العامة أن تثور منهم فتنة، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم، وإنما هي مخصوصة ببعضهم، فكتب إليه عثمان - كما قدمنا - أن يَقدم المدينة، فلما قدم اجتمع إليه الناس، فقال لعثمان: أريد الربذة. فقال له: افعل. فاعتزل. ولم يكن يصلح له إلا ذلك لطريقته ( ) .
عثمان وأبو الدرداء
6 - ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهدا فاضلا قاضيا لهم ( ) فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزلوه ( ) فخرج إلى المدينة.
وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من عاب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سببا فهو كله باطل.
رد الحكم
7 - وأما ردّ الحكم فلم يصحّ ( ) .
وقال علماؤنا في جوابه: قد كان أذن له فيه رسول الله  . وقال [ أي عثمان ] لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده، وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله  ولو كان أباه، ولا لينقض حكمه ( ) .
ترك القصر
8 - وأما ترك القصر فاجتهاد، إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السُّنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة، فتركها خوف الذريعة ( ) . مع أن جماعة من العلماء قالوا: إن المسافر مخيّر بين القصر والإتمام، واختلف في ذلك الصحابة( ).
معاوية ومكانته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان
9 - وأما معاوية فعمر ولاه، وجمع له الشامات كلها، وأقرّه عثمان بل إنما ولاه أبو بكر الصديق  لأنه ولى أخاه يزيد، واستخلفه يزيد، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتعلق عثمان بعمر وأقرّه. فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها ( ) ... ولن يأتي أحد مثلها أبدا بعدها ( ) .
تولية عثمان عبد الله بن عامر بن كريز
10 - وأما عبد الله بن [ عامر بن ] كُريز فولاه - كما قال - لأنه كريم العمّات والخالات ( ) .
تولية عثمان الوليد بن عقبة
11 - وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس - على فساد النيات - أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات. فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به. قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي ( ) وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله  وتوأمة أبيه. وسيأتي بيانه إن شاء الله ( ) .
والولايةُ اجتهاد ( ) وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة ( ) .
عدالة مروان
12 - وأما قول القائلين في مروان والوليد فشديد عليهم، وحكمهم عليهما بالفسق فسقٌ منهم.
مروان رجل عدل، من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه ( ) . وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن جازهم باسم الصحبة في أحد القولين ( ) . وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته، والتلفت إلى فتواه، والانقياد إلى روايته وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم.
وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين أن الله سماه فاسقا في قوله {     •    } ( ) [ الحجرات من الآية 6 ] فإنها - في قولهم - نزلت فيه، أرسله النبي  إلى بني المُصطلق، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، فأرسل رسول الله  إليهم خالد بن الوليد فتثبت في أمرهم فبين بطلان قوله. وقد اختُلف فيه، فقيل: نزلت في ذلك ( ) وقيل: في علي والوليد في قصة أخرى، وقيل: إن الوليد سبق يوم الفتح في جملة الصبيان إلى رسول الله  فمسح رؤوسهم وبرك عليهم، إلا هو فقال: إنه كان على رأسي خَلُوق، فامتنع  من مسه.
فمن يكون في مثل هذه السن يُرسل مصدقا ؟ ! ( ) .
وبهذا الاختلاف يسقط العلماء الأحاديث القوية. وكيف يفسق رجل بمثل هذا الكلام ؟ فكيف برجل من أصحاب محمد  ؟ !.
وأما حده في الخمر، فقد حد عمر قدامة بن مظعون على الخمر وهو أمير وعزله، وقيل إنه صالحه ( ) .
وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة ( ) .
وقد قيل لعثمان: إنك وليت الوليد لأنه أخوك لأمك أروى بنت كُريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فقال: بل لأنه ابن عمة رسول الله  أم حكيم البيضاء، وجدة عثمان وجدة الوليد لأمهما أروى المذكورة أم حكيم توأمة عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأي حرج على المرء أن يولّي أخاه أو قريبه؟ ( ) .
إعطاؤه خمس إفريقية لواحد
13 - وأما إعطاؤه خُمس إفريقية لواحد فلم يصح ( ) على أنه قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الإمام يرى رأيه في الخمس، وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده، وأن إعطاءه لواحد جائز، وقد بينا ذلك في مواضعه ( ) .
عثمان لم يضرب أحدا بالعصا
14 - وأما قولهم إنه ضرب بالعصا، فما سمعته ممن أطاع أو عصى، وإنما هو باطل يُحكى، وزُور يُنثى ( ) فيا لله وللنهى.
علوه على منبر رسول الله 
15 - وأما علوه على درجة رسول الله  فما سمعته ممن فيه تقية. وإنما هي إشاعة منكر، ليُروى ويُذكر، فيتغيّر قلب من يتغير، قال علماؤنا: ولو صح ذلك فما في هذا ما يُحل دمه. ولا يخلو أن يكون ذلك حقا فلم تنكره الصحابة عليه، إذ رأت جوازه ابتداء أو لسبب اقتضى ذلك. وإن كان لم يكن فقد انقطع الكلام ( ) .
انهزامه يوم حنين وفراره يوم أحد
16 - وأما انهزامه يوم حنين، وفراره يوم أحد، ومغيبه عن بدر وبيعة الرضوان، فقد بين عبد الله بن عمر وجه الحكم في شأن البيعة وبدر وأحد. وأما يوم حنين فلم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله  . ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقي ممن مضى في الصحيح، وإنما هي أقوال: منها أنه ما بقي معه إلا العباس وابناه عبد الله وقُثَم، فناهيك بهذا الاختلاف، وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة، وقد عفا الله عنه ورسوله، فلا يحل ذكرُ ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون، أخرج البخاري ( ) جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله وقال: لعل ذلك يسوؤك ؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله بأنفك ! ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله وقال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي  . ثم قال: لعل ذلك يسوؤك ؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك ! انطلق فاجهد عليّ جهدَك. وقد تقدم في حديث: {بُني الإسلام على خمس} ( ) زيادة فيه للبخاري في علي وعثمان ( ) . وقد أخرج البخاري أيضا ( ) من حديث عثمان بن عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم ؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم ؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني عنه. هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد ؟ قال: نعم. فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد: قال ؟ نعم. قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال: نعم. قال: الله أكبر ! قال ابن عمر، تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله  وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه ( ) . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله  عثمان ( ) وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة ( ) فقال رسول الله  بيده اليمنى: " هذه يد عثمان " فضرب بها على يده فقال: " هذه لعثمان ". ثم قال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك ( ) .
مؤاخذتهم عثمان بأنه لم يقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان
17 - وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان ، فإن ذلك باطل ( ) . فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون، والأمر في أوله ( ) وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه ( ) وكان قتل عبيد الله له وعثمان لم يل بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقا، لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله ( ) وأيضا فإن أحدا لم يقم بطلبه. وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح ؟.
تحقيق علمي عن الكتاب المنسوب لعثمان
18 - وأما تعلقهم بأن الكتاب وجد مع راكب، أو مع غلامه - ولم يقل أحد قط إنه كان غلامه ( ) - إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يأمره بقتل حامليه ( ) فقد قال لهم عثمان: إما أن تقيموا شاهدين على ذلك، وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت ( ) . وقد يكتب على لسان الرجل، ويضرب على خطه، وينقش على خاتمه ( ) . فقالوا لتسلم لنا مروان. فقال: لا أفعل. ولو سلمه لكان ظالما ( ) وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان وسواه، فما ثبت كان هو منفذه وآخذه والممكن لمن يأخذه بالحق. ومع سابقته وفضيلته ومكانته لم يثبت عليه ما يوجب خلعه فضلا عن قتله.
قول علي إن الخارجين على عثمان حساد طلاب دنيا
وأمثل ما روي في قصته أنه - بالقضاء السابق - تألب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها: ممن طلب أمرا فلم يصل إليه، وحسد حسادة أظهر داءها، وحمله على ذلك قلة دين وضعف يقين، وإيثار العاجلة على الآجلة ( ) . وإذا نظرت إليهم دلك صريح ذكرهم على دناءة قلوبهم وبطلان أمرهم ( ) .
التعريف بالغافقي المصري وكنانة بن بشر وسودان بن حمران
كان الغافقي المصري أمير القوم ( ) وكنانة بن بشر التجيبي ( ) وسودان بن حمران ( )
التعريف بعبد الله بن بديل وحكيم بن جبلة والأشتر
وعبد الله بن بُديل بن وَرقاء الخُزاعي ( ) وحُكيْم بن جبلة من أهل البصرة ( ) ومالك بن الحارث الأشتر ( ) في طائفة هؤلاء رؤوسهم، فناهيك بغيرهم.......
تسيير عثمان مثيري الفتنة إلى معاوية بالشام
وقد كانوا أثاروا فتنة، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد، وصاروا في جماعتهم عند معاوية ( ) فذكرهم بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة الأمة ( ) حتى قال له زيد صوحان - فيما يُروى ( ) " كما تكثر علينا بالإمرة وبقريش، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تجار " ( ) . فقال له معاوية: " لا أم لك. أذكرك بالإسلام وتذكرني بالجاهلية ! قبح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم، فما أنتم ممن ينفع أو يضر. اخرجوا عني ( ) .

انتقال مثيري الفتنة إلى منطقة عبد الرحمن بن خالد ومعاملته لهم بالحزم
وأخبره ابن الكواء بأهل الفتنة في كل بلد ومؤامرتهم ( ) فكتب إلى عثمان يخبره بذلك، فأرسل إليه بإشخاصهم إليه. فأخرجهم معاوية ( ) فمروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ( ) فحبسهم، ووبخهم، وقال لهم: " اذكروا ما كنتم تذكرون لمعاوية " ( ) . وحصرهم، وأمشاهم بين يديه أذلاء حتى تابوا بعد حول ( ) .
وكتب إلى عثمان بخبرهم، فكتب إليه أن سرحهم إلي. فلما مثلوا بين يديه جددوا التوبة، وحلفوا على صدقهم، وتبرأوا مما نسب إليهم ( ) وخيرهم حيث يسيرون، فاختار كل واحد ما أراد من البلاد: كوفة، وبصرة، ومصر، فأخرجهم. فما استقروا في حيث ما ساروا حتى ثاروا وألبوا، حتى انضاف إليهم جمع ( )
مسير فرق الثوار إلى المدينة
وساروا إليه ( ) على أهل مصر عبد الرحمن بن عديس البلوي ( ) وعلى أهل البصرة حكيم بن جبلة ( ) وعلى أهل الكوفة الأشتر مالك بن الحارث النخعي ( ) . فدخلوا المدينة هلال ذي القعدة سنة خمس وثلاثين ( ) . فاستقبلهم عثمان. فقالوا: ادع بالمصحف. فدعا به، فقالوا: افتح التاسعة ( ) - يعني يونس - فقالوا: اقرأ. فقرأ حتى انتهى إلى قوله: {         } ( ) قالوا له: قف. قالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى، أذن الله لك أم على الله افتريت؟ قال: امضِهْ، إنما نزلت في كذا. وقد حمى عمر، وزادت الإبل فزدت ( ) .
فجعلوا يتبعونه هكذا، وهو ظاهر عليهم. حتى قال لهم: ماذا تريدون؟
فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه ستا أو خمسا ( ) أن المنفي يعاد والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذوو الأمانة والقوة. فكتبوا ذلك في كتاب. وأخذ عليهم ألا يشقوا عصًا ولا يفرقوا جماعة. ثم رجعوا راضين ( ) .
وقيل أرسل إليهم عليًا فاتفقوا على الخمس المذكورة، ورجعوا راضين. فبينما هم كذلك ( ) إذا راكب يتعرض لهم ( ) .
ثم يفارقهم، مرارًا ( ) قالوا: ما لك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر ( ) . ففتشوه، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ( ) .
فأقبلوا حتى قدموا المدينة ( ) فأتوا عليًّا فقالوا له: ألم تر إلى عدو الله.
كتب فينا بكذا؟ وقد أحل الله دمه، قالوا له: فقم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم، فنظر بعضهم إلى بعض ( ) وخرج علي من المدينة.
فانطلقوا إلى عثمان فقالوا له: كتبت فينا كذا. قال لهم إما أن تقيموا اثنين من المسلمين، أو يميني - كما تقدم ذكره - فلم يقبلوا ذلك منه ( ) . ونقضوا عهده ( ) وحصروه.
وقائع ومحاورات بين عثمان والبغاة عليه
وقد روي أن عثمان جيء إليه بالأشتر، فقال له: يريد القوم منك إما أن تخلع نفسك، أو تقص منها، أو يقتلوك! فقال: أما خلعي فلا أترك أمة محمد بعضها على بعض. وأما القصاص، فصاحباي قبلي لم يقصا من أنفسهما، ولا يحتمل ذلك بدني ( ) .
وروي أن رجلًا قال له: نذرت دمك. قال: خذ جبتي. فشرط فيها شرطة بالسيف أراق منه دمه، ثم خرج الرجل وركب راحلته وانصرف في الحين ( ) .
فتوى ابن عمر لعثمان بألا يخلع نفسه لئلا تتخذ عادة
ولقد دخل عليه ابن عمر، فقال [ له عثمان ]: انظر ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك، قال له [ ابن عمر ]: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا، قال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عنك، فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه ( ) .
إشراف عثمان على الناس واستشهاده إياهم بسوابقه
وقد أشرف عليهم عثمان، واحتج عليهم بالحديث الصحيح في بنيان المسجد وحفر بئر رومة، وقول النبي  حين رجف بهم أحد. وأقروا له به في أشياء ذكرها ( ) .
وقد ثبت أن عثمان أشرف عليهم وقال: أفيكم ابنا محدوج ؟ أنشدكما الله ألستما تعلمان أن عمر قال: إن ربيعة فاجر أو غادر وإني والله لا أجعل فرائضهم وفرائض قوم جاءوا من مسيرة شهر، وإنما مهر أحدهم عند طبيبه. وإني زدتهم في غزاة واحد خمسمائة، حتى ألحقتهم بهم؟ قالوا: بلى.
قال: أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما أتيتماني فقلتما، إن كندة أكلة رأس، وإن ربيعة هي الرأس، وإن الأشعث بن قيس قد أكلهم فنزعه واستعملتكما؟ قالا: بلى.
قال، اللهم إنهم كفروا معروفي، وبدلوا نعمتي، فلا ترضهم عن إمامهم ولا ترض إمامًا عنهم.
موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار
وقد روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه ( ) . ثم قال: قم يا ابن عمر - وعلى ابن عمر سيفه متقلدًا - فأخبر به الناس ( ) .
فخرج ابن عمر و[ الحسن بن ] علي. ودخلوا فقتلوه ( ) .
اعتزام الأنصار الدفاع عن عثمان
وجاء زيد بن ثابت فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله [ مرتين ]. قال [ عثمان ] لا حاجة بي في ذلك، كفوا ( ) .
وقال له أبو هريرة: اليوم طاب الضرب معك. قال: عزمت عليك لتخرجن ( ) .
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده، فإنه جاء الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان، فعزم عليهم في وضع سلاحهم وخروجهم، ولزوم بيوتهم.
فقال له ابن الزبير ومروان: نحن نعزم على أنفسنا لا نبرح. ففتح عثمان الباب ودخلوا عليه في أصح الأقوال ( ) .
فقتله المرء الأسود ( ) .
وقيل: أخذ ابن أبي بكر بلحيته، وذبحه كنانة ( ) وقيل: رجل من أهل مصر يقال له حمار ( ) فسقطت قطرة من دمه على المصحف على قوله: { } ( ) فإنها ما حكت إلى الآن.
تزويرهم الكتب على لسان عائشة
وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف!؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقند المصفى، ومصتموه موص الإناء، وتركتموه كالثوب المنقى من الدنس ثم قتلتموه ( ) .
قال مسروق ( ) فقلت لها: ((عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه)). فقالت عائشة: ((والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوادًا في بياض)). قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها ( ) .
وقد روي أنه ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر.
قال القاضي أبو بكر (رحمه الله): فهذا أشبه ما روي في الباب وبه يتبين - وأصل المسألة سلوك سبيل الحق - أن أحدًا من الصحابة لم يسع عليه، ولا قعد عنه. ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفًا بلديين أو أكثر من ذلك، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة ( ) .
الحكم الفقهي في موقف عثمان من الدفاع عنه أو الاستسلام
وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها: هل يلقي بيده، أو يستنصر ( ) ؟ وأجاز بعضهم أن يستسلم ويلقي بيده اقتداء بفعل عثمان وبتوصية النبي  بذلك في الفتنة ( ) .
قال القاضي أبو بكر (رحمه الله): ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا إلي، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا علي، وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار ( ) .
اقتداء المؤلف بعثمان في مثل موقفه
وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها وصاية النبي  المتقدمة ( ) والثاني الاقتداء بعثمان، الثالث سوء الأحدوثة التي فر منها رسول الله  المؤيد بالوحي ( ) . فإن من غاب عني، بل من حضر من الحسدة معي، خفت أن يقول: إن الناس مشوا إليه مستغيثين به فأراق دماءهم.
وأمر عثمان كله سنة ماضية، وسيرة راضية. فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك، وأنه بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه شهيد ( ) .
وروي أنه قال له في المنام: إن شئت نصرتك، أو تفطر عندنا الليلة ( ) .
تشويه أخبار الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد الأخبار
وقد انتدبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا: إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبًا مؤلبًا، وبما جرى عليه راضيًا. واخترعوا كتابًا فيه فصاحة وأمثال كتب عثمان به مستصرخًا إلى علي. وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين ( ) .
قال القاضي أبو بكر: فالذي ينخل من ذلك أن عثمان مظلوم، محجوج بغير حجة ( ) . وأن الصحابة برآء من دمه بأجمعهم، لأنهم أتوا إرادته وسلموا له رايه في إسلام نفسه.
تشويه أخبار الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد الأخبار
ولقد ثبت - زائدًا إلى ما تقدم عنهم - أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان: إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم. فأذن لنا. فقال: أذكر الله رجلًا أراق لي دمه (أو قال دمًا) ( ) .
وقال سليط بن أبى سليط: نهانا عثمان عن قتالهم، فلو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم عن أقطارها ( ) .
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم غناءً من كف يده وسلاحه ( ) .
وثبت أن الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر ومروان كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم ( ) .
المدينة في حكم الإرهابيين خمسة أيام بلا خليفة ثم بويع عليّ
فلما قضى الله من أمره ما قضى، ومضى في قدره ما مضى، علم أن الحق لا يترك الناس سدى، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه. ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدرًا وعلمًا وتقى ودينًا، فانعقدت له البيعة. ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه. ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصـار، ورأى ذلك فرضًا عليه، فانقاد إليه ( ) .
قولهم في بيعة طلحة يد شلاء وفي طلحة والزبير بايعا مكرهين
وعقد له البيعة طلحة، فقال الناس: بايع عليًا يد شلاء، والله لا يتم هذا الأمر ( ) .
فإن قيل: بايعا مكرهين ( ) . قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما. ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحدًا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعًا. ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام ( ) .
وأما من قال يد شلاء وأمر لا يتم، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع، ولم يكن كذلك ( ) .
فإن قيل: فقد قال طلحة: ((بايعت واللج على قفي )) ( ) . قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في ((القفا)) لغة ((قفي)) كما يجعل في ((الهوى)): ((هوي)) وتلك لغة هذيل لا قريش ( ) فكانت كذبة لم تدبر.
وأما قولهم ((يد شلاء)) لو صح فلا متعلق لهم فيه، فإن يدا شلت في وقاية رسول الله  يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه ( ) . وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه.
فإن قيل: بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان. قلنا: هذا لا يصح في شرط البيعة، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب، وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم البينة، ويقع الحكم. فأما على الهجم عليه بما كان من قول مطلق، أو فعل غير محقق، أو سماع كلام، فليس ذلك في دين الإسلام ( ) .
قالت العثمانية: تخلف عنه من الصحابة جماعة، منهم سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم.
قلنا: أما بيعته فلم يتخلف عنها. وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكرتم، لأنها كانت مسألة اجتهادية، فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب قدره ( ) .

قاصمة
اجتماع أصحاب الجمل بمكة وخروجهم إلى البصرة
روى قوم أن البيعة لما تمت لعلي استأذن طلحة والزبير عليًا في الخروج إلى مكة ( ) . فقال لهما علي: لعلكما تريدان البصرة والشام. فأقسما ألا يفعلا ( ) .
وكانت عائشة بمكة ( ) .
وهرب عبد الله بن عامر عامل عثمان على البصرة إلى مكة، ويعلى بن أمية عامل عثمان على اليمن.
فاجتمعوا بمكة كلهم، ومعهم مروان بن الحكم. واجتمعت بنو أمية، وحرضوا على دم عثمان، وأعطى يعلى لطلحة والزبير وعائشة أربعمائة ألف درهم، وأعطى لعائشة ((عسكرًا)) جملًا اشتراه باليمن بمائتي دينار. فأرادوا الشام، فصدهم ابن عامر وقال: لا ميعاد لكم بمعاوية، ولي بالبصرة صنائع، ولكن إليها.

خرافة الحوأب وشهادة الزور
فجاءوا إلى ماء الحوأب ( ) ونبحت كلابه، فسألت عائشة فقيل لها: هذا ماء الحوأب. فردت خطامها عنه، وذلك لما سمعت النبي  يقول: {أيتكن صاحبة الجمل الأدبب ( ) التي تنبحها كلاب الحوأب؟} فشهد طلحة والزبير أنه ليس هذا ماء الحوأب، وخمسون رجلًا إليهما ( ) وكانت أول شهادة زور دارت في الإسلام ( ) .
خروج علي إلى الكوفة وما وقع في العراق قبل وصوله
وخرج علي إلى الكوفة ( ) وتعسكر الفريقان والتقوا ( ) وقال عمار - وقد دنا من هودج عائشة -: ما تطلبون؟ قالوا: نطلب دم عثمان.
قال: قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق ( ) .
والتقى علي والزبير، فقال له علي: أتذكر قول النبي  {إنك تقاتلني} ؟ فتركه ورجع. وراجعه ولده، فلم يقبل. وأتبعه الأحنف من قتله ( ) .
ونادى علي طلحة من بعد: ما تطلب؟ قال: دم عثمان. قال: قاتل الله أولانا بدم عثمان. ألم تسمع النبي  يقول: {اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله} ( ) وأنت أول من بايعني ونكث ( ) .

عاصمـــة
مجيء أصحاب الجمل إلى البصرة
أما خروجهم إلى البصرة فصحيح لا إشكال فيه.
ولكن لأي شيء خرجوا؟ لم يصح فيه نقل، ولا يوثق فيه بأحد لأن الثقة لم ينقله، وكلام المتعصب لا يسمع. وقد دخل على المتعصب من يريد الطعن في الإسلام واستنقاض الصحابة.
فيحتمل أنهم خرجوا خلعًا لعلي لأمر ظهر لهم ( ) وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة، وقاموا يطلبون الحق.
ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان ( ) .
ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين، وضم نشرهم، وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا. وهذا هو الصحيح، لا شيء سواه، وبذلك وردت صحاح الأخبار.
فأما الأقسام الأولى فكلها باطلة وضعيفة:
أما بيعتهم كرهًا فباطل قد بيناه ( ) .
وأما خلعهم فباطل؛ لأن الخلع لا يكون إلا بنظر من الجميع، فيمكن أن يولى واحد أو اثنان، ولا يكون الخلع إلا بعد الإثبات والبيان ( ) .
وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة، ويمكن أن يجتمع الأمران ( ) .
ويروى أن في تغيبهم ( ) قطع الشغب بين الناس. فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلي أمهم فيرعوا حرمة نبيهم. واحتجوا عليها ( ) بقول الله تعالي: {                 •• } ( ) ، (النساء: 114). وقد خرج النبي  في الصلح وأرسل فيه. فرجت المثوبة، واغتنمت القصة، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها.
وأحس بهم أهل البصرة، فحرض من كان بها من المتألبين على عثمان الناس، وقالوا: اخرجوا إليهم حتى تروا ما جاءوا إليه. فبعث عثمان بن حنيف حكيم بن جبلة ( ) فلقي طلحة والزبير بالزابوقة، فقتل حكيم ( ) ولو خرج مسلما مستسلما لا مدافعا لما ( ) أصابه شيء. وأي خير كان له في المدافعة، وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة، وإنما جاءوا ساعين في الصلح، راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم، كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد.
فلما واصلوا إلى البصرة تلقاهم الناس بأعلى المربد مجتمعين ( ) حتى لو رمي حجر ما وقع إلا على رأس إنسان. فتكلم طلحة (وتكلم الزبير ) وتكلمت عائشة رضي الله عنهم ( ) .

وكثر اللغط ( ) وطلحة يقول ((أنصتوا!)) فجعلوا يركبونه ولا يتصنتون، فقال ((أُف، أُف. فراش نار، وذباب طمع)). وانقلبوا على غير بيان ( ) .
وانحدروا إلى بني نهد، فرماهم الناس بالحجارة حتى نزلوا الجبل ( ) والتقى طلحة والزبير وعثمان بن حنيف - عامل علي على البصرة - وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال، ولعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءا، ولا يعرض بعضهم لبعض حتى يقدم علي ( ) .
نقض حكيم بن جبلة لكتاب الصلح ومصرعه
وروي أن حكيم بن جبلة عارضهم حينئذ. فقتل بعد الصلح ( ) وقدم علي البصرة ( ) وتدانوا ليتراءوا ( ) فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا بإراقة الدماء. واشتجر الحرب، وكثرت الغوغاء على البوغاء. كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا يقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان. وإن واحدًا في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف؟!.
مصرع طلحة بن عبيد الله وكعب بن سور قاضي البصرة
وقد روي أن مروان لما وقعت عينه في الاصطفاف على طلحة قال: لا نطلب أثرًا بعد عين، ورماه بسهم فقتله ( ) . ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب، ولم ينقله ثبت.
وقد روي [ أنه ] أصابه سهم بأمر مروان، لا أنه رماه ( ) .
وقد خرج كعب بن سور بمصحف منشور بيده يناشد الناس أن يريقوا دماءهم ( ) فأصابه سهم غربٍ فقتله ( ) ولعل طلحة مثله، ومعلوم أنه عند الفتنة وفي ملحمة القتال يتمكن أولو الإحن والحقود، من حل العرى ونقض العهود. وكانت آجالا حضرت، ومواعيد انتجزت ( ) .
حديث هذه ثم لزوم الحصر والكلام في صحة خروج عائشة
فإن قيل: لم خرجت عائشة رضي الله عنها وقد قال صلى الله عليه وسلم لهن في حجة الوداع {هذه ثم ظهور الحصر} ( ) . قلنا: حدث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة. يا عقول النسوان ألم أعهد إليكم ألا ترووا أحاديث البهتان، وقدمنا لكم على صحة خروج عائشة البرهان ( ) فلم تقولون ما لا تعلمون؟ وتكررون ما وقع الانفصال عنه كأنكم لا تفهمون؟ {  •          } ( ) .
عود إلى ذكر الحوأب ونقض الأسطورة عنه
وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب ( ) . ما كان قط شيء كما ذكرتم، ولا قال النبي  ذلك الحديث، ولا جرى ذلك الكلام، ولا شهد أحد بشهادتهم، وقد كتبت شهاداتكم بهذا الباطل وسوف تسألون ( ) .
قاصمة
حرب صفين ودعوى الفريقين وما اخترع في ذلك من أكاذيب
ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق ( ) هؤلاء يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يؤوي القتلة ( ) .
وعلي يقول لا أمكن طالبًا من مطلوب ينفذ فيه مراده بغير حكم ولا حاكم. ومعاوية يقول: لا نبايع متهمًا أو قاتلًا له، وهو أحد من يطلب فكيف نحكمه أو نبايعه، وهو خليفة عدا وتسور.
وذكروا في تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى استفعال رسائل ( ) واستخراج أقوال، وإنشاء أشعار، وضرب أمثال تخرج عن سيرة السلف، يقرها الخَلْف وينبذها الخَلَف ( ) .

عاصمـــة
عود إلى موقف علي من قتلة عثمان
أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعًا، وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعًا، وأما الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب [ الحق ] عنده، فإن ظهر له قضاء وإلا سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه. وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا ( ) .
ولئن اتهم علي بقتل عثمان فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي  إلا وهو متهم به، أو قل معلوم قطعًا أنه قتله لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفًا ( ) .
وهبك أن عليًا وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان، فباقي الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته؟
ولا يخلو أن يكون لأنهم رأوا أولئك طلبوا حقًا وفعلوا حقًا، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام. وإن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين، وأنهم لم يكن لهم رأي في الحال، ولا مبالاة عندهم بالإسلام ولا فيما يجري فيه من اختلال، فهي ردة ليست معصية. لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أو يتعدوا حد عثمان وإشارته فأي ذنب لهم فيه؟ وأي حجة لمروان - وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح - والطالبون ينظرون؟ ولو كان لهم بهم قوة أو أووا إلى ركن شديد لما مكنوا أحدًا أن يراه منهم ولا يداخله، وإنما كانوا نظارة، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ما جسروا، ولو قتلوهم ما بقي على الأرض منهم حي.
ولكن عثمان سلم نفسه، فترك ورأيه. وهي مسألة اجتهاد كما قدمنا ( ) .
وأي كلام كان يكون لعلي - لما تمت له البيعة - لو حضر عنده ولي عثمان وقال له: إن الخليفة قد تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه، وهم معلومون. ماذا كان يقول إلا: اثبت، وخذ، وفي يوم كان يثبت إلا أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقًا للقتل ( ) .
وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبدًا، وكان يكون الوقت أمكن للطالب، وأرفق في الحال، أيسر وصولًا إلى المطلوب ( ) .
والذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما صار إليه الأمر لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحدًا إلا بحكم، إلا من قتل في حرب بتأويل، أو دس عليه فيما يقال ( ) . حتى انتهى الأمر إلى زمن الحجاج، وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة ( ) . فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أصبحوا له يطلبون.
والذي تثلج به صدوركم أن النبي  ذكر في الفتن وأشار وبين، وأنذر بالخوارج وقال: {تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق} ( ) فبين أن كل طائفة [ منهما ] تتعلق بالحق، ولكن طائفة علي أدنى إليه ( ) . وقال تعالى: {                              •    } ( ) ، [ سورة الحجرات: 9 ] فلم يخرجهم عن ((الإيمان)) بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم اسم ((الأخوة)) بقوله بعده {       } ( ) ، [ الحجرات: من الآية 10 ].
وقال  في عمار: {تقتله الفئة الباغية} ( ) .
وقال في الحسن: {ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} ( ) ، فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه ( ) .
وكذلك يروى أنه أذن - في الرؤيا - لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة ( ) .
فهذه كلها أمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجرًا واحدًا ( ) .
وما وقع من روايات في كتب التاريخ - عدا ما ذكرنا - فلا تلتفتوا إلى حرف منها، فإنها كلها باطلة.

قاصمــة
التحكيـــم
وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله. وإذا لحظتموه بعين المروءة - دون الديانة - رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين.
والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط ( ) والدارقطني ( ) أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين أو تسعين ألفا ونزلوا على الفرات بصفين، اقتتلوا في أول يوم - وهو الثلاثاء - على الماء فغلب أهل العراق عليه ( ) .
ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [ سبع وثلاثين ] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ( ) ورفعت المصاحف من أهل الشام، ودعوا إلى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق، فكان من جهة علي أبو موسى ( ) ومن جهة معاوية عمرو بن العاص.
وكان أبو موسى رجلًا تقيًا فقيهًا عالمًا حسبما بيناه في كتاب (سراج المريدين)، وأرسله النبي  إلى اليمن مع معاذ، وقدمه عمرو وأثنى عليه بالفهم ( ) . وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا في القول، وأن ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيدًا لما أرادت من الفساد، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضًا وصنفوا فيه حكايات. وغيره من الصحابة كان أحدق منه وأدهى، وإنما بنوا على أن عمرًا لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر.
وقالوا: إنما لما اجتمع بأذرح من دومة الجندل ( ) وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين ( ) . فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول. فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت عليًا عن الأمر، وينظر المسلمون لأنفسهم، كما خلعت سيفي هذا من عنقي - أو من عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر ( ) كما أثبت سيفي هذا في عاتقي. وتقلده. فأنكر أبو موسى. فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف.

عاصمـــة
قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه): هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط. وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع ( ) .
وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر - في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه - عزل عمرو معاوية ( ) .
ذكر الدارقطني بسنده إلى حضين بن المنذر ( ) لما عزل عمرو معاوية جاء [ أي حضين بن المنذر ] فضرب فسطاطه قريبًا من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا [ أي عن عمرو ] كذا وكذا ( ) فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه، فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا ( ) ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله  وهو عنهم راضٍ. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية ؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما قال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه: فأتيته فأخبرته [ أي فأتى حضين معاوية فأخبره ] أن الذي بلغه عنه كما بلغه. فأرسل إلى أبي الأعور الذكواني ( ) فبعثه في خيله، فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدو الله أين هذا الفاسق؟.
قال أبو يوسف ( ) أظنه قال ((إنما يريد حوباء نفسه)) فخرج [ عمرو ] إلى فرس فسطاط فجال في ظهره عريانًا، فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول ((إن الضجور قد تحتلب العلبة، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة ( ) )) فقال معاوية ((أجل، وتربذ الحالب فتدق أنفه، وتكفأ إناءه ( ) )).
قال الدارقطني - وذكر سند عدلًا ( ) ربعي عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال: ((والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شيء لقد غبنا ونقص رأيهما. وايم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي. ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا. وايم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا ( ) )).
فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه. فأعرضوا عن الغاوين، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين، إلى سنن المهتدين. وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين.
وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله  فقد هلك من كان أصحاب النبي  خصمه. ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى. وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقادًا وعملًا. ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملًا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. ورحم الله الربيع بن خثيم ( ) فإنه لما قيل له: قتل الحسين ! قال: أقتلوه؟ قالوا: نعم . فقال : {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ( ) (الزمر: 46). ولم يزد على هذا أبدًا. فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين.

قاصمـــة
فإن قيل: إنما يكون ذلك في المعاني التي تشكل، وأما هذه الأمور كلها فلا إشكال فيها؛ لأن النبي  نص على استخلاف علي بعده فقال: {أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي} ( ) [ وقال ]: {اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله} ( ) فلم يبق بعد هذا خلاف لمعاند.
فتعدى عليه أبو بكر واقتعد في غير موضعه.
ثم خلفه في التعدي عمر.
ثم رجي أن يوفق عمر للرجوع إلى الحق، فأبهم الحال، وجعلها شورى قصرًا للخلاف، للذي سمع النبي  .
ثم تحيل ابن عوف حتى ردها عنه إلى عثمان.
ثم قتل عثمان لتسوره على الخلافة وعلى أحكام الشريعة، وصار الأمر إلى علي بالحق الإلهي النبوي، فنازعه من عاقده، وخالف عليه من بايعه، ونقض عهده من شده.
وانتدب أهل الشام إلى الفسوق في الدين، بل الكفر ( ) .
وهذه حقيقة مذهبهم ( ) أن الكل عندهم كفرة ( ) لأن من مذهبهم التكفير بالذنوب ( ) . وكذلك تقول هذه الطائفة التي تسمى بالإمامية: إن كل عاص بكبيرة كافر ( ) على رسم القدرية ( ) ولا أعصى من الخلفاء المذكورين ( ) ومن ساعدهم على أمرهم، وأصحاب محمد  أحرص الناس على دنيا، وأقلهم حمية على دين، وأهدمهم لقاعدة وشريعة ( ) .

عاصمـــة
مقارنة موقفهم من الصحابة بموقف اليهود والنصارى من أصحاب موسى وعيسى
قال القاضي أبو بكر (  ): يكفيك من شر سماعه، فكيف التململ به. خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا - لا ننقص منها يومًا ولا نزيد يومًا - وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص؟.
ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد  حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل ( ) . فما يرجى من هؤلاء، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى: {        •              •     } ( ) ، (النور: 55) ( ) وهذا قول صدق، ووعد حق. وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين، ولا أمن ولا سكون، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة.
وقد أجمعت الأمة على أن النبي  ما نص على أحد يكون من بعده ( ) . وقد قال العباس لعلي - فيما روى عنه عبد الله ابنه - قال عبد الله بن عباس: خرج علي بن أبي طالب  من عند رسول الله  في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله  ؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا. فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا. وإني لأرى رسول الله  يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله  فلنسأله: فيمن يكون هذا الأمر بعده، فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا. فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله  فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله  ( ) .
قال القاضي أبو بكر (  ): رأي العباس عندي أصح، وأقرب إلى الآخرة، والتصريح بالتحقيق. وهذا يبطل قول مدعي الإشارة باستخلاف علي، فكيف أن يُدَّعَى فيه نص ؟ !.
الأحاديث الصحيحة في أبي بكر وعمر ومكانتهما العليا
فأما أبو بكر، فقد {جاءت امرأة إلى النبي  فأمرها أن ترجع إليه. قالت له: فإن لم أجدك - كأنها تعني الموت - قال: تجدين أبا بكر} ( ) .
{وقال النبي  لعمر وقد وقع بينه [ أي بين عمر ] وبين أبي بكر كلام، فتعمر وجه النبي  ( ) حتى أشفق من ذلك أبو بكر، وقال النبي  " هل أنتم تاركو لي صاحبي ( مرتين ). إني بعثت إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت. إلا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته} ( ) ".
وقال النبي  {لو كنت متخذًا في الإسلام خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن أخي، وصاحبي} ( ) ".
وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا. لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ( ) .
وقد قال النبي  {بينما أنا نائم رأيتني على قليب ( ) عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبًا أو ذنوبين ( ) وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غربًا ( ) فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريًا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن} ( ) .
وقد ثبت أن {النبي  صعد أُحُدا وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف بهم: فقال: " اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان} ( ) .
وقال  {لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمُون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر} ( ) .
وقال النبي  لعائشة رضي الله عنها في مرضه: {ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر} ( ) .
وقال ابن عباس: {إن رجلًا أتى النبي  فقال: يا رسول الله، وإني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل. وأرى سببًا واصلًا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فعلوت، [ ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ]، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل له فعلا} ( ) ( وذكر الحديث ). ثم عبرها أبو بكر فقال: وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، فأخذته فيعليك الله. ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل فيعلو به ( ) .
وصح أن النبي  قال ذات يوم: {من رأى منكم رؤيا فقال رجل: أنا رأيت، كأن ميزانًا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فَرَجَحْت. ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر. ووزن عمر وعثمان فرجح عمر. ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهية في وجه رسول الله } ( ) .
وهذه الأحاديث جبال في البيان، وجبال في السبب إلى الحق لمن وفقه الله. ولو لم يكن معكم - أيها السنية - إلا قوله تعالى: {               } ( ) ( التوبة من الآية 40 ) فجعلها ( ) في نصيف، وجعل أبا بكر في نصيف آخر وقام معه جميع الصحابة.
وإذا تبصرتم هذه الحقائق فليس يخفى منها حال الخلفاء في خلالهم وولايتهم وترتيبهم خصوصًا وعمومًا. وقد قال الله تعالى: {        •              •           } ( ) ( سورة النور: من الآية 55 ). وإذا لم ينفذ هذا الوعد في الخلفاء فلمن ينفذ ؟ وإذا لم يكن فيهم فبمن يكون ؟ والدليل عليه انعقاد الإجماع أنه لم يتقدمهم في الفضيلة أحد إلى يومنا هذا، ومن بعد مختلف فيه، وأولئك مقطوع بهم، متيقن إمامتهم، ثابت نفوذ وعد الله لهم، فإنهم ذبوا عن حوزة المسلمين، وقاموا بسياسة الدين. قال علماؤنا: ومن بعدهم تبع لهم من الأئمة الذين هم أركان الملة، ودعائم الشريعة، الناصحون لعباد الله، الهادون من استرشد إلى الله. فأما من كان من الولاة الظلمة فضرره مقصور على الدنيا وأحكامها.
مراتب الصحابة ومن بعدهم وأصناف أئمة الدين ومنازلهم
وأما حفاظ الدين فهم الأئمة العلماء الناصحون لدين الله، وهم أربعة أصناف:
الصنف الأول: حفظوا أخبار رسول الله  وهم بمنزلة الخزان لأقوات المعاش.
الصنف الثاني: علماء الأصول: ذبوا عن دين الله أهل العناد وأصحاب البدع، فهم شجعان الإسلام، وأبطاله المداعسون عنه في مآزق الضلال ( ) .
الصنف الثالث: قوم ضبطوا أصول العبادات، وقانون المعاملات وميزوا المحللات من المحرمات، وأحكموا الخراج والديات، وبينوا معاني الأيمان والنذور، وفصلوا الأحكام في الدعاوى، فهم - في الدين - بمنزلة الوكلاء المتصرفين في الأموال.
الصنف الرابع: تجردوا للخدمة، ودأبوا على العبادة، واعتزلوا الخلق. وهم - في الآخرة - كخواص الملك في الدنيا.
وقد أوضحنا في كتاب ( سراج المريدين ) في القسم الرابع من علوم القرآن أي المنازل أفضل من هؤلاء الأصناف، وترتيب درجاتهم.
قال القاضي أبو بكر (  ): وهذه كلها إشارات أو تصريحات أو دلالات أو تنبيهات. ومجموع ذلك يدل على صحة ما جرى، وتحقيق ما كان من العقلاء.
ونقول - بعد هذا البيان - على مقام آخر: لو كان هنالك نص على أبي بكر أو على علي، لم يكن بد من احتجاج علي به، أو يحتج له به غيره من المهاجرين والأنصار. فأما حديث غدير خم ( ) فلا حجة فيه، لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته - عند سفره للمناجاة - على بني إسرائيل. وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود على أن موسى مات بعد هارون فأين الخلافة ؟.
وأما قوله {اللهم وال من والاه} ( ) فكلام صحيح، ودعوة مجابة وما يعلم أحد عاداه إلا الرافضة، فإنهم أنزلوه في غير منزلته، ونسبوا إليه ما لا يليق بدرجته. والزيادة في الحد نقصان من المحدود. ولو تعدى عليها أبو بكر ما كان المتعدِّي وحده، بل جميع الصحابة - كما قلنا - لأنهم ساعدوه على الباطل.
ولا تستغربوا هذا من قولهم، فإنهم يقولون: إن النبي  كان مداريًا لهم، معنيا بهم على نفاق وتقية. وأين أنت من قول النبي  {حين سمع قول عائشة رضي الله عنها: مروا عمر فليصل بالناس إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس} ( ).
وما قدمنا من تلك الأحاديث ( ) .
إصابة عمر في جعل الإمامة شورى ودقة ابن عوف في تخير عثمان
لقد اقتحموا عظيمًا، ولقد افتروا كبيرًا. وما جعلها عمر شورى إلا اقتداء بالنبي  وبأبي بكر، إذ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف فإن رسول الله  لم يستخلف ( ) " فما رد هذه الكلمات أحد. وقال: " أجعلها شورى في النفر الذين توفي رسول الله  وهو عنهم راض ( ) . وقد رضي الله عن أكثر منهم، ولكنهم كانوا خيار الرضا، وشهد لهم بالأهلية للخلافة.
وأما قولهم تحيل ابن عوف حتى ردها لعثمان، فلئن كانت حيلة ولم يكن سواها فلأن الحول ليس إليه ( ) . وإذا كان عمل العباد حيلة أو كان القضاء بالحول، فالحول والقوة لله. وقد علم كل أحد أنه لا يليها إلا واحد، فاستبد عبد الرحمن بن عوف بالأمر - بعد أن أخرج نفسه - على أن يجتهد للمسلمين في الأسد والأشد، فكان كما فعل، وولاها من استحقها، ولم يكن غيره أولى منه بها، حسبما بينا في مراتب الخلافة من ( أنوار الفجر ) ( ) وفي غيره من [ كتب ] الحديث.
لم يكن بعد عثمان أولى بها من علي فجاءته على قدر
وقتل عثمان، فلم يبق على الأرض أحق بها من علي، فجاءته على قدر، في وقتها ومحلها. وبين الله على يديه من الأحكام والعلوم ما شاء الله أن يبين. وقد قال عمر: " لولا علي لهلك عمر " ( ) وظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة - من استدعائهم ومناظرتهم، وترك مبادرتهم، والتقدم إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه: لا نبدأ بالحرب. ولا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا تهاج امرأة، ولا نغنم لهم مالا - وأمره بقبول شهادتهم، والصلاة خلفهم، حتى قال أهل العلم: لولا ما جرى ما عرفنا قتال أهل البغي.
وأما خروج طلحة والزبير فقد تقدم بيانه ( ) .
وأما تكفيرهم للخلق، فهم الكفار، وقد بينا أحوال أهل الذنوب التي ليس منها سب في غير ما كتاب، وشرحناها في كل باب.
فإن قيل: فقد قال العباس في علي ما رواه الأئمة أن العباس وعليًا اختصما عند عمر في شأن أوقاف رسول الله  فقال العباس لعمر: يا أمير المؤمنين، أقض بيني وبين هذا الظالم الكاذب الآثم الجائر ( ) . فقال الرهط لعمر: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. فقال عمر: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله  قال: {لا نورث، ما تركنا صدقة} ( ) يريد بذلك نفسه ؟ قالوا: قد قال ذلك. فأقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما الله، هل تعلمان أن رسول الله  قال ذلك ؟ قالا: نعم. قال عمر: إن الله خص رسول الله  في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدًا غيره، فعمل فيها رسول الله  حياته، ثم توفي، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله  فقبضها سنتين في إمارته فعمل فيها بما عمل رسول الله  .
وأنتما تزعمان أن أبا بكر كاذب غادر خائن ( ) والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق... وذكر الحديث.
قلنا: أما قول العباس لعلي فقول الأب للابن، وذلك على الرأي محمول، وفي سبيل المغفرة مبذول، وبين الكبار والصغار - فكيف الآباء والأبناء - مغفور موصول، وأما قول عمر أنهما اعتقدا أن أبا بكر ظالم خائن غادر، فإنما ذلك خبر عن الاختلاف في نازلة وقعت من الأحكام، رأى فيها هذا رأيا ورأى فيها أولئك رأيا، فحكم أبو بكر وعمر بما رأيا، ولم ير العباس وعلي ذلك. ولكن لما حكما سلما لحكمهما كما يسلم لحكم القاضي في المختلف فيه. وأما المحكوم عليه فرأى أنه قد وهم، ولكن سكت وسلم.
فإن قيل: إنما يكون ذلك في أول الحال - والأمر لم يظهر - إذ كان الحكم باجتهاد، وأما [ بعد أن ] أدى هذا الحكم إلى منع فاطمة والعباس الميراث بقول النبي  {لا نورث ما تركناه صدقة} ( ) وعلمه أزواج النبي  وأصحابه العشرة وشهدوا به، فبطل ما قلتموه ( ) .
قلنا: يحتمل أن يكون ذلك في أول الحال - والأمر لم يظهر بعد - فرأيا أن خبر الواحد في معارضة القرآن والأصول والحكم المشهور في الزمن لا يعمل به حتى يتقرر الأمر، فلما تقرر سلما وانقادا، بدليل ما قدمنا من الحديث الصحيح إلى آخره، فلينظر فيه. وهذا أيضًا ليس بنص في المسالة، لأن قوله: {لا نورث، ما تركناه صدقة} ( ) يحتمل أن يكون: لا يصح ميراثنا، ولا أنا أهل له، لأنه ليس لي ملك، ولا تلبست بشيء من الدنيا فينتقل إلى غيري عني. ويحتمل " لا نورث " حكم، وقوله " ما تركناه صدقة " حكم آخر معين أخبر به أنه قد أنفذ ذلك مخصوصًا بما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكان له سهمه مع المسلمين فيما غنموا بما أخذوه عنوة. ويحتمل أن يكون " صدقة " منصوبًا على أن يكون حالًا من المتروك. إلى هذا أشار أصحاب أبي حنيفة، وهو ضعيف، وقد بيناه في موضعه. بيد أنه يأتيك في هذا أن المسألة مجرى الخلاف، ومحل الاجتهاد، أنها ليست بنص من النبي  فتحتمل التصويب والتخطئة من المجتهدين والله أعلم.

قاصمة
بيعة الحسن وصلحه مع معاوية
ثم قتل علي. قالت الرافضة: فعهد إلى الحسن، فسلمها الحسن إلى معاوية، فقيل له " مُسَوِّدُ وجوه المؤمنين ( ) " وفسقته جماعة من الرافضة، وكفرته طائفة لأجل ذلك.

عاصمة
علي لم يعهد إلى الحسن لكن البيعة للحسن منعقدة
قال القاضي أبو بكر (  ): أما قول الرافضة أنه عهد إلى الحسن فباطل. ما عهد إلى أحد ( ) . ولكن البيعة للحسن منعقدة، وهو أحق من معاوية ومن كثير من غيره، وكان خروجه لمثل ما خرج إليه أبوه من دعاء الفئة الباغية إلى الانقياد للحق والدخول في الطاعة، فآلت الوساطة إلى أن تخلى عن الأمر صيانة لحقن دماء الأمة ( ) وتصديقًا لقول نبي الملحمة حيث قال على المنبر: {ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} ( ) فنفذ الميعاد، وصحت البيعة لمعاوية، وذلك لتحقيق رجاء النبي  فمعاوية خليفة، وليس بملك ( ) .
حديث الخلافة ثلاثون سنة ينقضه حديث اثنا عشر خليفة
فإن قيل: فقد روي عن سفينة أن النبي  قال: {الخلافة ثلاثون سنة، ثم تعود ملكًا} ( ) فإذا عددنا من ولاية أبي بكر إلى تسليم الحسن كانت ثلاثين سنة لا تزيد ولا تنقص يومًا، قلنا:
خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ
فِي طَلْعَةِ الْبَدْرِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ

هذا الحديث ( ) في ذكر الحسن بالبشارة له والثناء عليه، لجريان الصلح بين يديه، وتسليم الأمر لمعاوية، عقد منه له ( ) .
وهذا ( ) حديث لا يصح ( ) . ولو صح فهو معارض لهذا الصلح المتفق عليه، فوجب الرجوع إليه ( ) .
فإن قيل: ألم يكن في الصحابة أقعد بالأمر من معاوية ؟
قلنا: كثير ( ) .
مزايا معاوية وسيرته الممتازة التي أهلته لحمل أعباء الإسلام
ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال: وهي أن عمر جمع له الشامات كلها وأفرده بها ( ) لما رأى من حسن سيرته ( ) وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور ( ) وإصلاح الجند والظهور على العدو ( ) وسياسة الخلق ( ) .
وقد شهد له في صحيح الحديث بالفقه ( ) وشهد بخلافته في حديث أم حرام أن ناسًا من أمته يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة، وكان ذلك في ولايته ( ) .
ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية: خلافة، ثم ملك. فتكون ولاية الخلافة للأربعة، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية ( ) . وقد قال الله في داود - وهو خير من كل معاوية ( ) -: {    } ( ) . ( البقرة: من الآية 251 ) فجعل النبوة ملكًا. فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومتنها ( ) .
ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان - والله أعلم - رأي آخر للجمهور، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التي شاءها الله، على الوجه الذي وعد به رسول الله  مادحًا له، راضيًا عنه راجيًا هدنة الحال فيه، لقول النبي  {ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} ( ) .
إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه
وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه، فليست المسألة في الحد الذي يجعلها فيه العامة، وقد بيناها في موضعها ( ) .
فإن قيل: قتل حجر بن عدي - وهو من الصحابة مشهور بالخير - صبرًا أسيرًا، يقول زياد: وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله، قلنا: علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول قتله ظلمًا، وقائل يقول قتله حقًا ( ) .
فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله: قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل. ولو كان ظلمًا محضًا لما بقي بيت إلا لعن فيه معاوية. وهذه مدينة السلام دار خلافة بني العباس - وبينهم وبين بني أمية ما لا يخفى على الناس - مكتوب على أبواب مساجدها: " خير الناس بعد رسول الله  أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم ( ) .
ولكن حجرًا - فيما يقال - رأى من زياد أمورا منكرة ( ) فحصبه، وخلعه، وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فسادًا.
وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله. وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين، وما أنتم ودخولكم حيث لا تشعرون، فما لكم لا تسمعون ؟
فساد ما تقوله الشيعة في وفاة الحسن أهلية يزيد للولاية
فإن قيل: قد دس على الحسن من سمه.
قلنا: هذا محال من وجهين: أحدهما أنه ما كان ليتقي من الحسن بأسًا وقد سلم الأمر. الثاني أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تحملونه - بغير بينة - على أحد من خلقه في زمان متباعد لم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل المصمم ( ) .
نقد ثلاثة أخبار ملفقة على وهب بن جرير في تمهيد معاوية لولاية يزيد
فإن قيل: فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل ( ) . وجرى بينه وبين عبد الله بن عمر وابن الزبير والحسن ما قصه [ المؤرخون ] عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه وعن غيره: لما أجمع معاوية أن يبايع لابنه يزيد حج، فقدم مكة في نحو ألف رجل. فلما دنا من المدينة خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فلما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ابنه يزيد فقال: من أحق بهذا الأمر منه ( ) . ثم ارتحل، فقدم مكة فقضى طوافه، ودخل منزله، فبعث إلى ابن عمر، فتشهد وقال: " أما بعد يا ابن عمر، فقد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك أمير. وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى في فساد ذات بينهم ". فلما سكت تكلم ابن عمر فحمد الله واثنى عليه ثم قال: " أما بعد فإنه قد كانت قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير منهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار. وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، وإنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا واحد منهم ". فخرج ابن عمر ( ) .
وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فتشهد ثم أخذ في الكلام فقطع عليه كلامه، فقال: " إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لا نفعل. والله لَتَرُدَّنَّ هذا الأمر شورى في المسلمين أو لتفرنها عليك جذعة ( ) " ثم وثب فقام. فقال معاوية: " اللهم اكففه بما شئت ". ثم قال: " على رسلك أيها الرجل، لا تشرفن لأهل الشام، فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك، حتى أخبر العشية أنك قد بايعت، ثم كن بعد ذلك على ما بدا لك من أمرك ".
ثم أرسل إلى ابن الزبير فقال: " يا ابن الزبير، إنما أنت ثعلب رواغ كلما خرج من جحر دخل في آخر، وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما. فقال ابن الزبير: إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها، وهلم ابنك فلنبايعه. أرأيت إذا بايعت ابنك معك لأيكما نسمع، لأيكما نطيع ؟ لا تجتمع البيعة لكما أبدا " ( ) . ثم قام.
فخرج معاوية فصعد المنبر فقال: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار. وزعموا أن ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر لم يبايعوا ليزيد قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له.
فقال أهل الشام: لا والله: لا نرضى حتى يبايعوا على رءوس الأشهاد، وإلا ضربنا أعناقهم.
فقال: " مه، سبحان الله، وما أسرع الناس إلى قريش بالشر. لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم ". ثم نزل.
فقال الناس: بايعوا. ويقولون هم: لم نبايع. ويقول الناس: قد بايعتم.
وروى وهب من طريق آخر قال: خطب معاوية فذكر ابن عمر فقال: " والله ليبايعن أو لأقتلنه ". فخرج عبد الله بن عبد الله بن عمر إلى أبيه وسار إلى مكة ثلاثًا وأخبره ( ) فبكى ابن عمر. فبلغ الخبر إلى عبد الله بن صفوان، فدخل على ابن عمر فقال: أخطب هذا بكذا ؟ قال: نعم. قال فما تريد، أتريد قتاله ؟ قال: يا ابن صفوان، الصبر خير من ذلك. فقال ابن صفوان: والله لو أراد ذلك لأُقَاتِلَنَّهُ ( ) . فقدم معاوية مكة فنزل ذا طوى، وخرج إليه عبد الله بن صفوان فقال: أنت تزعم أنك تقتل ابن عمر إن لم يبايع لابنك ؟ قال: أنا أقتل ابن عمر ؟ إني والله لا أقتله.
وروى وهب من طريق ثالث ( ) قال: إن معاوية لما راح عن بطن مُرّ قاصدا إلى مكة قال لصاحب حرسه: لا تدع أحدًا يسير معي إلا من حملته. فخرج يسير وحده، حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي، فوقف وقال: مرحبًا وأهلًا بابن بنت رسول الله  سيد شباب المسلمين. دابة لأبي عبد الله يركبها. فأتي ببرْذوْن، فتحول عليه. ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر ( ) فقال: مرحبا بابن شيخ قريش وسيدهم وابن صديق هذه الأمة. دابة لأبي محمد يركبها. فأتي ببرذون فركبه. ثم طلع ابن عمر فقال: مرحبًا وأهلًا بصاحب رسول الله وابن الفاروق وسيد المسلمين، ودعا له بدابة فركبها. ثم طلع ابن الزبير فقال: مرحبا وأهلًا بابن حواري رسول الله وابن الصديق وابن عمة رسول الله  ودعا له بدابة فركبها، ثم أقبل يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى دخل مكة، ثم كانوا أول داخل وآخر خارج ليس في الأرض صباح إلا لهم فيه حباء وكرامة، لا يعرض لهم بذكر شيء مما هو فيه حتى قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره إلى الشام وأنيخت رواحله، فأقبل بعض القوم على بعض فقالوا: أيها القوم لا تخدعوا إنه والله ما صنع هذا لحبكم ولا لكرامتكم ولا صنعه إلا لما يريد، فأعدوا له جوابًا، أقبلوا على الحسين فقالوا: أنت يا أبا عبد الله. قال: وفيكم شيخ قريش وسيدها ؟ هذا أحق بالكلام. فقالوا: أنت يا أبا محمد - لعبد الرحمن بن أبي بكر - فقال. لست هناك، وفيكم صاحب رسول الله  وابن سيد المسلمين - يعني ابن عمر - فقالوا لابن عمر: أنت ! فقال: لست بصاحبكم، ولكن أولوا الكلام ابن الزبير يكفكم. قالوا: أنت يا ابن الزبير. قال: نعم، إن أعطيتموني عهودكم ومواثيقكم أن لا تخالفوني كفيتكم الرجل. فقالوا: فلك ذلك. فخرج الإذن، فأذن لهم. فدخلوا.
فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لقد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وصفحي عنكم، وحلمي لما يكون منكم، ويزيد ابن أمير المؤمنين أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس لكم رأيًا. وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم الذين تنزعون وتؤمّرون وتجبون وتقسمون لا يدخل عليكم في شيء من ذلك.
فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني ؟ فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني ؟ فسكتوا: فأقبل على ابن الزبير فقال: هات يا ابن الزبير، فإنك لعمري صاحب خطبة القوم، فقال: نعم يا أمير المؤمنين أخيرك بين ثلاث خصال أيها أخذت فهي لك رغبة: قال: لله أبوك، اعرضهن: قال: إن شئت صنعت ما صنع رسول الله  وإن شئت صنعت ما صنع أبو بكر فهو خير هذه الأمة بعد رسول الله  وإن شئت صنعت ما صنع عمر فهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر: قال: لله أبوك، ما صنعوا ؟ قال: قبض رسول الله  فلم يستخلف أحدًا، فارتضى المسلمون أبا بكر، فإن شئت أن تدع أمر هذه الأمة حتى يقضي الله فيه قضاءه فيختار المسلمون لأنفسهم. فقال: إيه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر، وإني لا آمن عليكم الاختلاف. قال: فاصنع كما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه. قال: لله أبوك. الثالثة ؟ قال: تصنع ما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر من قريش ليس أحد منهم من ولد أبيه. قال: عندك غير هذا ؟ قال: لا. قال: فأنتم ؟ قالوا: ونحن أيضًا. قال. أما لا، فإني أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، وإن كان يقوم القائم منكم إلي فيكذبني على رءوس الأشهاد فأحتمل له ذلك. وإني قائم بمقالة، فإن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعلي كذبي. وإني أقسم بالله لكم لئن رد علي إنسان منكم لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إلي رأسه. ثم دعا بصاحب حرسه فقال: أقم على كل رجل من هؤلاء رجلين من حرسك فإن ذهب رجل يرد علي كلمة بصدق أو كذب فليضرباه بسيفهما ( ) ثم خرج وخرجوا معه، حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نستبد بأمر دونهم، ولا نقضي أمرًا إلا عن مشورتهم. وإنهم ارتضوا وبايعوا ليزيد ابن أمير المؤمنين من بعده، فبايعوا باسم الله. فضربوا على يده، ثم جلس على راحلته وانصرف.
فلقيهم الناس فقالوا: زعمتم وزعمتم، فلما أرضيتم وحبيتم فعلتم قالوا: إنا والله ما فعلنا. قالوا: فما منعكم أن تردوا على الرجل إذ كذب ؟ ثم بايع أهل المدينة والناس، ثم خرج إلى الشام.
قال القاضي أبو بكر (  ): لسنا ننكر، ولا بلغت بنا الجهالة، ولا لنا في الحق حمية جاهلية، ولا ننطوي على غل لأحد من أصحاب محمد  بل نقول: {                •   } ( ) إلا أن نقول، إن معاوية ترك الأفضل في أن يجعلها شورى، وألا يخص بها أحدًا من قرابته فكيف ولدًا، وأن يقتدي بما أشار به عبد الله بن الزبير في الترك أو الفعل ( ) فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له البيعة وبايعه الناس، وتخلف عنها من تخلف ( ) فانعقدت البيعة شرعًا، لأنها تنعقد بواحد وقيل باثنين ( ) .
فإن قيل: لمن فيه شروط الإمامة، قلنا: ليس السن من شروطها ولم يثبت أنه يقصر يزيد عنها.
[ فإن ] قيل: كان منها العدالة والعلم، ولم يكن يزيد عدلًا ولا عالمًا. قلنا: وبأي شيء نعلم عدم علمه، أو عدم عدالته ( ) ؟ ولو كان مسلوبهما لذكر ذلك الثلاثة الفضلاء الذين أشاروا عليه بأن لا يفعل، وإنما رموا إلى الأمر بعيب التحكيم، وأرادوا أن تكون شورى.
فإن قيل: كان هنالك من هو أحق منه عدالة وعلمًا، منهم مائة وربما ألف. قلنا: إمامة المفضول - كما قدمنا ( ) - مسألة خلاف بين العلماء، كما ذكر العلماء في موضعه.
وقد حسم البخاري الباب، ونهج جادة الصواب، فروى في صحيحه ما يبطل جميع هذا المتقدم، وهو أن معاوية خطب وابن عمر حاضر في خطبته، فيما روى البخاري ( ) عن عكرمة بن خالد أن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها تنطف ( ) . قلت: قد كان في الأمر ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت: " الحق، فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة ". فلم تدعه حتى ذهب.
فلما تفرق الناس خطب معاوية فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة ( ) فهلا أجبته ؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. فقال حبيب: حُفظت وعُصمت.
ابن عمر يعلن في الثورة على يزيد أن في عنقه البيعة الشرعية له
وروى البخاري ( ) أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وقال: إني سمعت رسول الله  يقول: {يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة} ( ) وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ( ) وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن نبايع رجلًا على بيع الله ورسوله ثم ننصب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه ( ) .
فانظروا معشر المسلمين إلى ما روى البخاري في الصحيح، وإلى ما سبق ذكرنا له في رواية بعضهم أن عبد الله بن عمر لم يبايع، وأن معاوية كذب وقال قد بايع. وتقدم إلى حرسه بأمره بضرب عنقه إن كذبه. وهو قد قال في رواية البخاري: " وقد بايعناه على بيع الله ورسوله " وما بينهما من التعارض، وخذوا لأنفسكم بالأرجح في طلب السلامة، والخلاص بين الصحابة والتابعين. فلا تكونوا - ولم تشاهدوهم، وقد عصمكم الله من فتنتهم - ممن دخل بلسانه في دمائهم، فيلغ فيها ولوغ الكلب بقية الدم على الأرض بعد رفع الفريسة بلحمها، لم يلحق الكلب منها إلا بقية دم سقط على الأرض.
وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد " إن كان خيرًا رضينا، وإن كان شرًا صبرنا ".
وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله  حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، لا أفقهها فقهًا ولا أعظمها فيها شرفًا. وأنا أقول ذلك. ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. أرأيتم بابًا دخل فيه أمة محمد ووسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه ؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم ؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم. ثم قال: قال رسول الله  {لا يأتيك من الحياء إلا خير} .
فهذه الأخبار الصحاح كلها تعطيك أن ابن عمر كان مسلمًا في أمر يزيد، وأنه بايع وعقد له والتزم ما التزم الناس، ودخل فيما دخل فيه المسلمون، وحرم على نفسه ومن إليه بعد ذلك أن يخرج على هذا أو ينقضه.
وظهر لك أن من قال: إن معاوية كذب في قوله بايع ابن عمر ولم يبايع، وأن ابن عمر وأصحابه سئلوا فقالوا " لم نبايع " فقد كذب. وقد صدق البخاري في روايته قول معاوية في المنبر " إن ابن عمر قد بايع " بإقرار ابن عمر بذلك ( ) وتسليمه له وتماديه عليه.
فأي الفريقين أحق بالصدق إن كنتم تعلمون ؟ الفريق الذي فيه البخاري، أم الذي فيه غيره ؟ فخذوا لأنفسكم بالأحزم، والأصح، أو اسكتوا عن الكل، والله يتولى توفيقكم وحفظكم.
و" الصاحب " الذي كنى عنه حميد بن عبد الرحمن هو ابن عمر، والله أعلم. وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة، وهي تعضد ما أصَّلناه لكم من أن ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له. ولما في حلها - أو طلب الفضل - من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة.
الشهادة ليزيد له بالاستقامة والصلاح
فإن قيل. كان يزيد خمارًا. قلنا: لا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه ( ) بل شهد العدل بعدالته. فروى يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال الليث: " توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا " فسماه الليث " أمير المؤمنين " بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا " توفي يزيد ".
الحسين بين الذين نهوه عن الخروج والذين حرضوه عليه
فإن قيل: ولو لم يكن ليزيد إلا قتله للحسين بن علي. قلنا: يا أسفا على المصائب مرة، ويا أسفا على مصيبة الحسين ألف مرة. وإن بوله يجري على صدر النبي  ودمه يراق على البوغاء ولا يحقن ( ) يا لله ويا للمسلمين.
وإن أمثل ما روي فيه أن يزيد كتب إلى الوليد بن عتبة ينعي له معاوية ويأمره أن يأخذ له البيعة على أهل المدينة - وقد كانت تقدمت - فدعا مروان فأخبره فقال له: أرسل إلى الحسين بن علي وابن الزبير، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم. قال: سبحان الله، نقتل الحسين بن علي وابن الزبير ؟ قال: هو ما أقوله لك. فأرسل إليهما، فأتاه ابن الزبير، فنعى إليه معاوية وسأله البيعة، فقال: ومثلي يبايع هنا ؟ ارق المنبر، وأنا [ أبايع ] مع الناس علانية. فوثب مروان وقال: اضرب عنقه، فإنه صاحب فتنة وشر. فقال [ ابن الزبير ]: فإنك لهنالك يا ابن الزرقاء ؟ ( واستبّا ). فقال الوليد: اخرجا عني، وأرسل إلى الحسين ولم يكلمه بكلمة في شيء، وخرجا من عنده. وجعل الوليد عليهما الرصد. فلما دنا الصبح خرجا مسرعين إلى مكة فالتقيا بها فقال له ابن الزبير: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك ؟ فوالله لو أن لي مثلهم لذهبت إليهم. فهذا ما صح.
وذكر المؤرخون أن كتب أهل الكوفة وردت على الحسين ( ) وأنه أرسل مسلم بن عقيل - ابن عمه - إليهم ليأخذ عليهم البيعة وينظر هو في اتِّباعه، فنهاه ابن عباس وأعلمه أنهم خذلوا أباه وأخاه، وأشار عليه ابن الزبير بالخروج فخرج، فلم يبلغ الكوفة إلا ومسلم بن عقيل قد قتل وأسلمه من كان استدعاه ! ويكفيك بهذا عظة لمن اتعظ. فتمادى واستمر غضبًا للدين وقيامًا بالحق. ولكنه  لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر ( ) وطلب الابتداء في الانتهاء، والاستقامة في الاعوجاج، ونضارة الشبيبة في هشيم المشيخة. ليس حوله مثله ولا له من الأنصار من يرعى حقه، ولا من يبذل نفسه دونه، فأردنا أن نطهر الأرض من خمر يزيد ( ) فأرقنا دم الحسين، فجاءتنا مصيبة لا يجبرها سرور الدهر.
وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة: منها قوله  ( ) {إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان} ( ) . فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله. ولو أن عظيمها وابن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين وسعه بيته أو ضيعته أو إبله - ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق، وفي جملتهم ابن عباس وابن عمر - لم يلتفت إليهم، وحضره ما أنذر به النبي  وما قال في أخيه ( ) ورأى أنها خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه، فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة، وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه ؟ ما أدرى في هذا إلا التسليم لقضاء الله، والحزن على ابن بنت رسول الله  بقية الدهر. ولولا معرفة أشياخ وأعيان الأمة بأنه أمر صرفه الله عن أهل البيت، وحال من الفتنة لا ينبغي لأحد أن يدخلها، ما أسلموه أبدا.
وهذا أحمد بن حنبل - على تقشفه وعظيم منزلته في الدين وورعه - قد أدخل عن يزيد بن معاوية في ( كتاب الزهد ) أنه كان يقول في خطبته: " إذا مرض أحدكم مرضًا فأُشفي ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه ولينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه " وهذا يدل على عظيم منزلته عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يُقْتَدَى بقولهم ويُرْعَوَى من وعظهم، ونعم. وما أدخله إلا في جملة الصحابة، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين. فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور، ألا تستحيون ؟ ! وإذ سلبهم الله المروءة والحياء، ألا ترعوون أنتم وتزدجرون، وتقتدون بالأحبار والرهبان من فضلاء الأمة، وترفضون الملحدة والمجان من المنتمين إلى الملة: {   ••    } ( ) والحمد لله رب العالمين.
وانظر إلى ابن الزبير بعد ذلك وما دخل فيه من البيعة له بمكة، والأرض كلها عليه. وانظروا إلى ابن عباس وعقله وإقباله على نفسه. وانظروا إلى ابن عمر وسنه وتسليمه للدنيا ونبذه لها. ولو كان للقيام وجه لكان أولى بذلك ابن عباس، فإن ولدي أخيه عبيد الله قد ذكر أنهما قتلا ظلمًا ( ) . ولكن رأى بعقله أن دم عثمان لم يخلص إليه، فكيف بدم ولدي عبيد الله ! وإن الأمر راهق ( ) قد خرجا عنه حفظًا للأصل، وهو اجتماع أمر الأمة وحقن دمائها وائتلاف كلمتها. ودع الأمر يتولاه أسود مجدع حسبما أمر به صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه ( ) . وكل منهم عظيم القدر مجتهد، وفيما دخل فيه مصيب مأجور، ولله فيه حكم قد أنفذه، وحكم في الآخرة قد أحكمه وفرغ منه. فاقدروا هذه الأمور مقاديرها، وانظروا بما قابلها ابن عباس وابن عمر فقابلوها، ولا تكونوا من السفهاء الذين يرسلون ألسنتهم وأقلامهم بما لا فائدة لهم فيه، ولا يغني من الله ولا من دنياهم شيئًا عنهم.
وانظروا إلى الأئمة الأخيار وفقهاء الأمصار، هل أقبلوا على هذه الخرافات وتكلموا في مثل هذه الحماقات ؟ بل علموا أنها عصبيات جاهلية وحمية باطلة، ولا تفيد إلا قطع الحبل بين الخلق، وتشتيت الشمل واختلاف الأهواء - وقد كان ما كان، وقال الإخباريون ما قالوا فإما سكوت، وإما اقتداء بأهل العلم وطرح لسخافات المؤرخين والأدباء. والله يكمل علينا وعليكم النعماء برحمته.

نكتة
النبي  أول من عقد الولاية لبني أمية
وعجبًا لاستكبار الناس ولاية بني أمية، وأول من عقد لهم الولاية رسول الله  فإنه ولى يوم الفتح عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية مكة - حرم الله وخير بلاده - وهو فَتِيُّ السن قد أبقل أو لم يبقل. واستكتب معاوية بن أبي سفيان أمينًا على وحيه، ثم ولى أبو بكر يزيدَ بن أبي سفيان - أخاه - الشام. وما زالوا بعد ذلك يتوقلون في سبيل المجد، ويترقون في درج العز، حتى أنهتهم الأيام إلى منازل الكرام.
وقد روى الناس أحاديث فيهم لا أصل لها، منها حديث رؤية النبي  بني أمية ينزون على منبره كالقردة، فعز عليه، فأعطي ليلة القدر خيراً من ألف شهر يملكها بنو أمية. ولو كان هذا صحيحاً ما استفتح الحال بولايتهم، ولا مكن لهم في الأرض بأفضل بقاعها وهي مكة. وهذا أصل يجب أن تشد عليه اليد.

مسألة استلحاق معاوية لزياد
فإن قيل: أحدث معاوية في الإسلام الحكم بالباطل، والقضاء بما لا يحل من استلحاق زياد. قلنا: قد بينا في غير موضع أن استلحاق زياد إنما كان لأشياء صحيحة، وعمل مستقيم نبينه بعد ذكر ما ادعى فيه المدعون من الانحراف عن الاستقامة، إذ لا سبيل إلى تحصيل باطلهم، لأن خرق الباطل لا يرقع، ولسانه أعظم منه فكيف به لا يقطع ؟ !.
قالوا: كان زياد ينتسب إلى عبيد الثقفي من سمية جارية الحارث بن كلدة ( ) ، واشترى [ زياد ] عبيدا - أباه - بألف درهم فأعتقه ( ) .
قال أبو عثمان النهدي: فكنا نغبطه. واستعمله عمر على بعض صدقات البصرة، وقيل بل كتب لأبي موسى ( ) فلما لم يقطع الشهادة مع الشهود على المغيرة جلدهم وعزله وقال له: ما عزلتك لخزية، ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك. ورووا أن عمر أرسله إلى اليمن في إصلاح فساد، فرجع وخطب خطبة لم يسمع مثلها، فقال عمرو بن العاص: " أما والله لو كان هذا الغلام قرشياً لساق الناس بعصاه "، فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه، فقال له علي: ومن ؟ قال: أنا. قال مهلا يا أبا سفيان. فقال أبو سفيان أبياتاً من الشعر:
أما والله لولا خــوف شخــص
لأظهـر أمره صخـر بن حرب
وقد طالت مخاتلتي ثقيفاً


يراني يا علــي من الأعـادي
ولم تكـن المقالـة عن زيــاد
وتركي فيهــم ثمـر الفـؤاد

فذلك الذي حمل معاوية.
واستعمله علي على فارس، وحمى، وجبى، وفتح، وأصلح.
وكاتبه معاوية يروم إفساده، فوجه [ زياد ] بكتابه إلى علي بشعر، فكتب إليه علي: " إني وليتك ما وليتك وأنت أهل لذلك عندي. ولن يدرك ما تريد بما أنت فيه إلا بالصبر واليقين. وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر، لا تستحق بها نسباً ولا ميراثاً. وإن معاوية يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه ". فلما قرأ زياد الكتاب قال: " شهد لي أبو حسن ورب الكعبة ". فذلك الذي جرأ زيادا ومعاوية بما صنعا. ثم ادعاه معاوية سنة أربع وأربعين، وزوج معاوية ابنته من ابنه محمد. وبلغ الخبر أبا بكرة - أخاه لأمه - فآلى يميناً ألا يكلمه أبداً، وقال " هذا زَنَّى أمه، وانتفى من أبيه. والله ما رأت سمية أبا سفيان قط، وكيف يفعل بأم حبيبة ( ) أيراها فيهتك حرمة رسول الله، وإن حجبته فضحته ". فقال زياد: جزى الله أبا بكرة خيراً، فإنه لم يدع النصيحة في حال. وتكلم فيه الشعراء، ورووا عن سعيد بن المسيب أنه قال: أول قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحاق زياد.
قال القاضي أبو بكر (  ): قد بينا في غير موضع هذا الخبر، وتكلمنا عليه بما يغني عن إعادته، ولكن لا بد في هذه الحالة من بيان المقصود منه فنقول:
كل ما ذكرتم لا ننفيه ولا نثبته لأنه لا يحتاج إليه. والذي ندريه حقاً ونقطع عليه علما أن زياداً من الصحابة بالمولد والرؤية ( ) لا بالتفقه والمعرفة. وأما أبوه فما علمنا له أبا قبل دعوى معاوية على التحقيق ( ) وإنما هي أقوال غائرة من المؤرخين. وأما شراؤه له فمراعاة للحضانة، فإنه حضنه عنده إذ دخل عليه، فله نسب بالحضانة إليه إن كان ذلك.
وأما قولهم إن أبا عثمان [ النهدي ] غبطه بذلك، فهو بعيد على أبي عثمان، فإنه ليس في أن يبتاع أحد حاضنه أو أباه فيعتقه من المزية بحيث يغبطه عليه أبو عثمان وأمثاله، لأن هذه مرتبة يدركها الغني والفقير والشريف والوضيع، ولو بذل من المال ما يعظم قدره، فيدرأ به قدر مروءته في إهانة الكثير العظيم، في صلة الولي الحميم، وإنما ساقوا هذه الحكاية ليجعلوا له أبا، ويكون بمنزلة من انتفى من أبيه.
وأما استعمال عمر له فصحيح، وناهيك بذلك تزكية وشرفاً ودينا.
وأما قولهم إن عمر عزله لأنه لم يشهد بباطل، بل روي أنه لما شهد أصحابه الثلاثة ( ) وعمر يقول للمغيرة: ذهب ربعك، ذهب نصفك، ذهب ثلاثة أرباعك، فلما جاء زياد قال له: إني أراك صبيح الوجه، وإني لأرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلاً من أصحاب محمد  .
وأما خطبته التى ذكروا أنه عجب منها عمرو، فما كان عنده فضل علم ولا فصاحة يفوق بها عمراً فمن فوقه أو دونه. وقد أدخل له الشيخ المفتري ( ) . خطباً ليست في الحد المذكور.
وأما قولهم إن أبا سفيان اعترف به، وقال شعرا فيه، فلا يرتاب ذو تحصيل في أن أبا سفيان لو اعترف به في حياة عمر لم يخف شيئاً، لأن الحال لم يكن يخلو من أحد قسمين: إما أن يرى عمر إلاطته به ( ) كما روي عنه في غيره فيمضي ذلك، أو يرد ذلك فلا يلزم أبا سفيان شيء باقتراف ما كان في الجاهلية. فذكرهم هذه الحكاية المخترعة الباردة المتهافتة الخارجة عن حد الدين والتحصيل لا معنى له.
وأما تولية علي له فتزكية.
وأما بعث معاوية إليه ليكون معه فصحيح في الجملة. وأما تفصيل ما كتب معاوية، أو كتب زياد به إلى علي، أو جاوب به علي زياداً، فهذا كله مصنوع.
وأما قول علي " إنما كانت من أبي سفيان فلتة [ زمن عمر ] لا تستحق بها نسبا " فلو صح لكان ذلك شهادة، كما روي عن زياد، ولم يكن ذلك بمبطل لما فعله معاوية، لأنها مسألة اجتهاد بين العلماء: فرأى علي شيئاً، ورأى معاوية وغيره غيره.
الفرق بين واقعتي استلحاق زياد وابن وليدة زمعة
وأما ( نكتة الكلام ) وهو القول في استلحاق معاوية زياداً وأخذ الناس عليه في ذلك، فأي إخذ عليه فيه إن كان سمع ذلك من أبيه ؟ وأي عار على أبي سفيان في أن يليط بنفسه ولد زنا كان في الجاهلية. فمعلوم أن سمية لم تكن لأبي سفيان، كما لم تكن وليدة زمعة لعتبة، لكن كان لعتبة منازع تعين القضاء له، ولم يكن لمعاوية منازع في زياد.
اللهم إن هاهنا نكتة اختلف العلماء فيها، وهي أن الأخ إذا استلحق أخا يقول هو ابن أبي ولم يكن له منازع بل كان وحده، فقال مالك: يرث ولا يثبت النسب. وقال الشافعي - في أحد القولين - يثبت النسب ويأخذ المال، هذا إذا كان المقر به غير معروف النسب. واحتج الشافعي بقول النبي  {هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر} ( ) فقضى بكونه للفراش وبإثبات النسب. قلنا هذا جهل عظيم، وذلك أن قوله إن النبي  قضى بكونه للفراش صحيح، وأما قوله بثبوت النسب فباطل، لأن عبداً ادعى سببين: أحدهما الأخوة والثاني ولادة الفراش. فلو قال النبي  هو أخوك، الولد للفراش. لكان إثباتاً للحكم، وذكراً للعلة. بيد أن النبي  عدل عن الأخوة ولم يتعرض لها، وأعرض عن النسب ولم يصرح به، وإنما في الصحيح في لفظ {هو أخوك} ( ) ، وفي آخر {هو لك} ( ) ، معناه فأنت أعلم به. وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف ( ) .
فالحارث بن كلدة لم يدع زياداً ولا كان إليه منسوباً، وإنما كان ابن أمته ولد على فراشه - أي في داره - فكل من ادعاه فهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل فعل فيه الحق على مذهب مالك.
فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة ؟.
قلنا: لأنها مسألة اجتهاد، فمن رأى أن النسب لا يلحق بالوارث الواحد أنكر ذلك وعظمه.
فإن قيل: ولم لعنوه، وكانوا يحتجون بقول النبي  {ملعون من انتسب لغير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه} ( ) ؟.
قلنا: إنما لعنه من لعنه لوجهين: أحدهما لأنه أثبت نسبه من هذا الطريق، ومن لم يـر لعنه لهذا لعنه لغيره. وكان زياد أهلا أن يلعن - عندهم - لما أحدث بعد استلحاق معاوية ( ) .
فإن قيل: جعل النبي  للزنا حرمة، ورتب عليها حكماً حين قال: {احتجبي منه يا سودة} ( ) وهذا يدل على أن الزنا يتعلق به من حرمة الوطء ما يتعلق بالنكاح الصحيح. هكذا قال الكوفيون. ومالك في رواية ابن القاسم يساعدهم على المسألة ولا يساعدهم على دليلها من هذا الوجه، وقد بيناها في كتاب النكاح. وقال الشافعي: العذر في أمر النبي  لسودة بالاحتجاب مع ثبوت نسبه من زمعة وصحة أخوته لها بدعوى عبد أن ذلك تعظيم لحرمة أزواج النبي  لأنهن لم يكن كأحد من النساء في شرفهن وفضلهن.
قلنا: لو كان أخاها بنسب ثابت صحيح كما قلتم، ويكون قول النبي  {الولد للفراش} ( ) تحقيقاً للنسب، لما منع النبي  سودة منه، كما لم يمنع عائشة من الرجل الذي قالت: هو أخي من الرضاعة، وإنما قال: {انظرن من إخوانكن} ( ) .
وأما ما روي عن سعيد بن المسيب، فأخبر عن مذهبه في أن هذا الاستلحاق ليس بصحيح، وكذلك رأى غيره من الصحابة والتابعين. وقد صارت المسألة إلى الخلاف بين الأمة وفقهاء الأمصار، فخرجت من حد الانتقاد إلى حد الاعتقاد. وقد صرح مالك في كتاب الإسلام وهو ( الموطأ ) بنسبه فقال في دولة بني العباس " زياد بن أبي سفيان "، ولم يقل كما يقول المجادل " زياد بن أبيه " هذا على أنه لا يرى النسب يثبت بقول واحد. ولكن في ذلك فقه بديع لم يفطن له أحد، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف، ونفذ الحكم فيها بأحد الوجهين، لم يكن لها رجوع، فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها. والله أعلم.
وأما روايتهم أن عمر قال " كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس " فهذه زيادة ليس لها أصل، من ناقص عقل، وأي عقل كان لزياد يزيد على الناس في أيام عمر ( ) وكل واحد من الصحابة كان أعقل من زياد وأعلم منه ولهذا كل من كمل عقله أكثر من الآخر فهو أولى أن يختلط مع الناس. ويقولون: كان داهية، وهي كلمة واهية. الدهاء والأرب هو المعرفة بالمعاني، والاستدلال علي العواقب بالمبادي وكل أحد من الصحابة والتابعين فوق زياد وتلك الروايات التي يروي المؤرخون - من كذبهم - في حيل الحرب والفتك بالناس، كل أحد اليوم يقدر على مثلها وأكثر منها، والحيلة إنما تكون بديعة وتنثى وتروى إذا وافقت الدين، وأما كل حكاية تخالف الدين فليس في روايتها خير ولا عقل. وكل الناس كما قدمنا - وخذ من ولاة بني أمية خاصة - أعقل من زياد وأفصح منه. فلا تلتفتوا إلي ما روي من الأباطيل.

نكتـــــة
الولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس
الولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس. لقد علمتم أن رسول الله  مات عن زهاء اثني عشر ألفا من الصحابة معلومين. منهم ألفان أو نحوهما مشاهير في الجلالة، ولى منهم أبو بكر سعدا وأبا عبيدة ويزيد وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ونفرا غيرهم فوقهم، وولى أنس بن مالك ابن عشرين سنة علي البحرين اقتداء بالنبي  في عتاب ( ) . ومتى كان استوفى المشيخة حتى يأخذ الشبان. وولى عمر أيضا كذلك، وبادر بعزل خالد. وذلك كله لفقه عظيم ومعارف بديعة بيانها في موضعها من كتب الإمامة والسياسة من الأصول، فخذوا في غير هذا، فليس هذا الباب مما تلوكه أشداق أهل الآداب.
وأما ما روي عن معاوية أنه استدعى شهوداً فشهد السلولي وسواه ( ) فسل من ألحق ما روي عن السلولي، فإنه لم يكن قط. واسعد بإسقاط ما روي في القصة، سعيد أو سعد. وأما كلام أبي بكرة - أخيه لأمه - فيه فغير ضائر له، لأن ذلك رأي أبي بكرة واجتهاده. وأما قولهم فيها عن أبي بكرة أنه زنى أمه، فلو كان ذلك صحيحاً لم يضر أمه ما جرى في الجاهلية في الدين، فإن الله عفا عن أهل الجاهلية كلها بالإسلام. وأسقط الإثم والعار منه، فلا يذكره إلا جاهل به.
قال القاضي أبو بكر (  ): والناس إذا لم يجدوا عيباً لأحد وغلبهم الحسد عليه وعداوتهم له أحدثوا له عيوباً. فاقبلوا الوصية، ولا تلتفتوا إلا إلى ما صح من الأخبار، واجتنبوا - كما ذكرت لكم - أهل التواريخ، فإنهم ذكروا عن السلف أخباراً صحيحة يسيرة ليتوسلوا بذلك إلى رواية الأباطيل، فيقذفوا - كما قدمنا - في قلوب الناس ما لا يرضاه الله تعالى، وليحتقروا السلف ويهونوا الدين، وهو أعز من ذلك، وهم أكرم منا، فرضي الله عن جميعهم.
ومن نظر إلى أفعال الصحابة تبين منها بطلان هذه الهتوك التى يختلقها أهل التواريخ فيدسونها في قلوب الضعفاء، وهذا زياد لما أحس المنية استخلف سمرة بن جندب من كبار الصحابة فقبل خلافته، وكيف يظن به - على منزلته - أنه يقبل ولاية ظالم لغير رشدة، وهو على ما هو عليه من الصحبة، وذلك من غير إكراه ولا تقية ؟ إن هذا لهو الدليل المبين. فمع من تحبون أن تكونوا: مع سمرة بن جندب، أو مع المسعودي والمبرد وابن قتيبة ونظرائهم ( ) ؟ وهذا غاية في البيان.

قاصمــــة
اجتماع العرب بالإسلام
كانت الجاهلية مبنية على العصبية، متعاملة بينها بالحمية فلما جاء الإسلام بالحق، وأظهر الله منته على الخلق، قال سبحانه: {             } ( ) ، [ آل عمران: من الآية 103 ]، وقال لنبيه: {       •        } ( ) [ الأنفال: من الآية 63 ]، فكانت بركة النبي  تجمعهم، وتجمع شملهم، وتصلح قلوبهم، وتمحو ضغائنهم.
واستأثر الله برسوله  ونفرت النفوس، وتماسكت الظواهر منجرة ما دام الميزان قائماً.
ظهور الأحزاب البكرية والعمرية والعثمانية والعلوية والعباسية
فلما رفع الميزان - كما تقدم ذكره ( ) في الحديث - أخذ الله القلوب عن الألفة، ونشر جناحاً من التقاطع، حتى سوى جناحين بقتل عثمان، فطار في الآفاق، واتصل الهرج إلى يوم المساق. وصارت الخلائق عزين ( ) في كل واد من العصبية يهيمون: فمنهم بكرية، وعمرية، وعثمانية، وعلوية، وعباسية - كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم مقتر من الخير عديم. وليس ذلك بمذهب، ولا فيه مقالة، وإنما هي حماقات وجهالات، أو دسائس للضلالات، حتى تضمحل الشريعة، وتهزأ الملحدة من الملة، ويلهو بهم الشيطان ويلعب، وقد سار بهم في غير مسير ولا مذهب.
قالت البكرية: أبو بكر نص عليه رسول الله  في الصلاة، ورضيته الأمة للدنيا، وكان عند النبي  بتلك المنزلة العليا، والمحبة الخالصة. وولي فعدل، واختار فأجاد، إلا أنه أوهم في عمر فإنه أمره غليظ: وفظاظته غلبت. وذكروا معايب، وأما عثمان فلم يخف ما عمل. وكذلك علي. وأما العباس فغير مذكور.
وقالت العمرية: أما أبو بكر ففاضل ضعيف. وعمر إمام عدل قوي بمدح النبي  له في حديث الرؤيا والدلو والعبقري كما تقدم ( ) . وأما عثمان فخارج عن الطريق: ما اختار واليا، ولا وفى أحداً حقاً، ولا كف أقاربه، ولا اتبع سنن من كان قبله. وأما علي فجريء على الدماء. لقد سمعت في مجالس أن ابن جريج ( ) . كان يقدم عمر على أبي بكر. وسمعت الطرطوشي ( ) يقول: لو قال أحد بتقديم عمر لتبعته.
وقالت العثمانية: عثمان له السوابق المتقدمة، والفضائل والفواضل في الذات والمال، وقتل مظلوماً.
وقالت العلوية: علي ابن عمه وصهره وأبو سبطي النبي  وولد النبي  حضانة.
وقالت العباسية: هو أبو النبي  وأولاهم بالتقديم بعده. وطولوا في ذلك من الكلام ما لا معنى لذكره لدناءته ( ) ورووا أحاديث لا يحل لنا أن نذكرها لعظيم الافتراء فيها ودناءة رواتها.
وأكثر الملحدة على التعلق بأهل البيت ( ) وتقدمة علي على جميع الخلق ( ) حتى إن الرافضة أنقسمت إلى عشرين فرقة أعظمهم بأسا من يقول إن عليا هو الله. والغرابية يقولون إنه رسول الله لكن جبريل عدل بالرسالة عنه إلى محمد حمية منه معه... في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه.

عاصمـــة
تحذير المسلمين من أهواء المفسرين والمؤرخين وأهل الآداب
إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصة من المفسرين، والمؤرخين، وأهل الآداب، بأنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاماً إلا للطبري ( ) وغير ذلك هو الموت الأحمر، والداء الأكبر. فإنهم ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، وعن الحق إلى الهوى. فإذا قاطعتم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل. ولم تطووا كشحا على هذه الغوائل ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل، أو مبتدع محتال. فأما الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسما في كتاب ( الإمامة والسياسة ) إن صح عنه جميع ما فيه ( ) وكالمبرد في كتابه الأدب ( ) . وأين عقله من عقل ثعلب الإمام المتقدم في أماليه، فإنه ساقها بطريقة أدبية سالمة من الطعن على أفاضل الأمة. وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه ( ) . فإذا صنتم أسماعكم وأبصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة مما ينسب إليه ما لا يليق ويذكر [ عنه ] ما لا يجوز نقله، كنتم على منهج السلف سائرين، وعن سبيل الباطل ناكبين.
فهذا مالك  قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان موطئه وأبرزه في جملة قواعد الشريعة ( ) . وقال في روايته: " عن زياد بن أبي سفيان ". فنسبه إليه وقد علم قصته، ولو كان عنده ما يقول العوام حقا لما رضي أن ينسبه ولا ذكره في كتابه الذي أسسه للإسلام ( ) وقد جمع ذلك كله في أيام بني العباس والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه ولا أنكروا ذلك منه لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد مسألة قد اختلف الناس فيها فمنهم من جوزها ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم إليها سبيل.
وكذلك أعجبهم - حين قرأ الخليفة على مالك الموطأ - ذكر عبد الملك بن مروان فيه وإذكاره بقضائه، لأنه إذا احتج العلماء بقضائه فسيحتج بقضائه أيضا مثله، وإذا طعن فيه طعن فيه بمثله ( ) .
وأخرج البخاري ( ) عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب: " إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله، ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك ".
ما نسب إلى الأمويين أهون من قول المأمون بخلق القرآن
وسماح العباسيين بقراءة كتب الجاحظ في المساجد مع ما فيها من مناكير
وهذا المأمون كان يقول بخلق القرآن، وكذلك الواثق، وأظهروا بدعتهم، وصارت مسألة معلومة إذا ابتدع القاضي أو الإمام هل تصح ولايته وتنفذ أحكامه أم هي مردودة ؟ وهي مسألة معروفة. وهذا أشد من برودات أصحاب التواريخ من أن فلاناً الخليفة شرب الخمر أو غنى أو فسق أو زنى، فإن هذا القول في القرآن بدعة أو كفر - على اختلاف العلماء فيه - قد اشتهروا به، وهذه المعاصي لم يتظاهروا بها إن كانوا فعلوها، فكيف يثبت ذلك عليهم بأقوال المغنين والبراد من المؤرخين [ الذين ] قصدوا بذكر ذلك عنهم تسهيل المعاصي على الناس وليقولوا إذا كان خلفاؤنا يفعلون هذا فما يستبعد ذلك منا. وساعدهم الرؤساء على إشاعة هذه الكتب وقراءتها لرغبتهم في مثل أفعالهم حتى صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وحتى سمحوا للجاحظ أن تقرأ كتبه في المساجد وفيها من الباطل والكذب والمناكير ونسبة الأنبياء إلى أنهم ولدوا لغير رشدة كما قال في إسحاق  في كتاب الضلال والتضلال، وكما مكنوا من قراءة كتب الفلاسفة في إنكار الصانع وإبطال الشرائع لما لوزرائهم وخواصهم في ذلك من الأغراض الفاسدة والمقاصد الباطلة، فإن زل فقيه أو أساء العبارة عالم: يكن في كتاب الضلال والتضلال، وكما مكنوا من قراءة كتب الفلاسفة في إنكار الصانع وإبطال الشرائع لما لوزرائهم وخواصهم في ذلك من الأغراض الفاسدة والمقاصد الباطلة، فإن زل فقيه أو أساء العبارة عالم:
يكـن مــا أسـاء النـار فـي رأس كبكـبا ( )


وبالوقوف على هذه الفضول تحسن نياتكم، وتسلم عن التغير قلوبكم على من سبق.
وقد بينت لكم أنكم لا تقبلون على أنفسكم في دينار، بل في درهم، إلا عدلا بريئا من التهم، سليما من الشهوة. فكيف تقبلون في أحوال السلف وما جرى بين الأوائل ممن ليس له مرتبة في الدين، فكيف في العدالة !
ورحم الله عمر بن عبد العزيز حيث قال وقد تكلموا في الذي جرى بين الصحابة: {  •        •        } ( ) ، [ البقرة: آية 134 ].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

بعض المراجع
لكتابة تعليقات الكتاب، وترجمة القاضي ابن العربي
ديوان ذي الرمة غيلان بن عقبة (77- 117) - مخطوطتنا الخاصة -
موطأ مالك بن أنس (93 - 179) بتعليقات الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي 1370
كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف (113 - 182). طبع السلفية
كتاب الخراج ليحيى بن آدم (وفاته 203) بشرح الشيخ أحمد شاكر. السلفية 1384
طبقات ابن سعد (168 - 230) طبع ليدن 1321
نسب قريش لمصعب بن عبد الله الزبيري (156 - 236)
مسند أحمد (164 - 241). الطبعة الأولى بمصر 1313
مسند أحمد بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. (صدر منه 9 أجزاء)
كتاب الزهد للإمام أحمد. طبع مكة سنة 1357
صحيح البخاري (194- 256) الطبعة السلطانية بالقسطنطينية 1315
صحيح مسلم (206 - 261) الطبعة السلطانية بالقسطنطينية 1329
سنن أبي داود (202 - 275) طبع دهلي 1272
سنن ابن ماجه (209 - 273). بتحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. مصر 1373
جامع الترمذي (209 - 279) وشرحه عارضة الأحوذي لابن العربي. مصر 1350
سنن النسائي (215 - 303). مصر 1312
البيان والتبيين للجاحظ (المتوفى سنة 255). مصر 1332
ديوان الحطيئة بشرح أبي سعيد السكري (212 - 275). مصر
الميسر والقداح لابن قتيبة (213 - 276). طبع السلفية 1385
فتوح البلدان للبلاذري (المتوفى سنة 279). مصر 1350
أنساب الأشراف للبلاذري. القدس 36 - 1938
تاريخ الطبري (224 - 310). مصر 1321
تفسير الطبري: طبع بولاق 1323
كتاب العزلة لأبي سليمان الخطابي (317 - 388). مصر 1352
المستدرك على الصحيحين للحاكم بن البيع (321 - 405). حيدر أباد الدكن 35 - 1342
الأحكام السلطانية للماوردي (366 - 450). مصر 1327
التمهيد لأبي بكر الباقلاني (وفاته 403). بتحقيق الأستاذ الخضيري 1366
الاستيعاب لابن عبد البر (368 - 463) بهامش الإصابة. مصر 1328
الفصل في الملل والنحل لابن حزم (384 - 457). مصر 17 - 1321
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم. مصر 45 - 1348
السنن الكبرى للبيهقي (384- 458). حيدر أباد الدكن 44 - 1355
الكفاية للخطيب البغدادي (392 - 463) حيدر أباد 1357
معجم ما استعجم للبكري (وفاته 487) بتحقيق الأستاذ مصطفى السقا 65 - 1371
مطمح الأنفس للفتح بن خاقان القيسي (وفاته 535). طبع الجوائب 1302
تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (499 - 571). دمشق 29 - 1351
النهاية في غريب الحديث للمجد ابن الأثير (544 - 606). مصر 1311
معجم البلدان لياقوت (574 - 626). طبعة وستنفلد. لايبسيك 1870
المنتقى من أحاديث الأحكام لمجد الدين عبد السلام بن تيمية (490 - 652)
وفيات الأعيان لابن خلكان (608 - 681). مصر 1299
لسان العرب لابن منظور (630 - 711). طبع بولاق 130 - 1308
منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728). بولاق 1321
المنتقى من منهاج الاعتدال مختصر منهاج السنة للذهبي (673- 748) طبع السلفية
لسان الميزان للحافظ الذهبي (673 - 748). مصر 1325
تذكرة الحفاظ للذهبي. طبعة حيدر أباد الدكن 33 - 1334
التمهيد والبيان في مقتل عثمان لابن بكر الأشعري (674 - 741) مخطوطة دار الكتب
البداية والنهاية لابن كثير (701- 774). طبع مصر
المراقبة العليا للنباهي (المولود سنة 713) بتحقيق بروفنسال 1367
طبقات الشافعية لابن السبكي (728 - 771). مصر 1324
الديباج المذهب لابن فرحون (المتوفى سنة 799). مصر 1329
العبر لولي الدين ابن خلدون (732 - 806) بولاق 1284
الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير (775 - 840) المنيرية 1346
الإصابة للحافظ ابن حجر (773 - 852). مصر 1328
فتح الباري للحافظ ابن حجر. السلفية 1380
لسان الميزان لابن حجر. حيدر أباد الدكن 30 - 1331
تهذيب التهذيب لابن حجر. لكنو بالهند 1321
الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل لمجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي (860 - 927). طبعة مصر 1283
خلاصة تذهيب الكمال للصفي الخزرجي (ألفها سنة 922). طبع مصر 1323
شذرات الذهب لابن العماد (1032 - 1089). مصر 50 - 1351
تاج العروس للمرتضى الحسيني (1145 - 1205). مصر 67 - 1307
فصل الخطاب لعدو الله حسين النوري الطبرسي. إيران 1298
تنقيح المقال للمامقاني (1290 - 1351) طبع النجف 1352
شجرة النور الزكية لمخلوف. طبع السلفية 49 - 1350
تاريخ القرآن والمصاحف لأبي عبد الله الزنجاني. مصر 1354
عثمان بن عفان للشيخ صادق عرجون. مصر 1366
مجلة الأزهر مصطلح التاريخ للدكتور أسد رستم




فهرس الآيات
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما 143
إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون 121
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون 128
أولئك المقربون 33
تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما 18
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا 193
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة 37
فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه 19
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق 103
فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه 158
في جنات النعيم 33
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل 96
قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين 135
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون 32
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين 116
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين 60
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم 32
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا 33
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه 62
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين 174
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ 187
والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا 33
والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا 166
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان 32
والسابقون السابقون 33
وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم 187
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما 127
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض 139, 143
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم 32
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل 62
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم 41
ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين 43
ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما 74
ياأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال 64
ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين 33

فهرس الأحاديث
ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين 128, 151, 158
احتجبي منه يا سودة 182
ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول 142
الأئمة من قريش 42
الخلافة ثلاثون سنة، ثم تعود ملكا 152
اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله 114, 136, 145
النبي صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف بهم فقال 142
الولد للفراش 183
إن الله اختارني واختار أصحابي فجعلهم أصهاري وجعلهم أنصاري وإنه سيجيء 34
إن رجلا أتى النبي فقال يا رسول الله، وإني أرى الليلة في المنام ظلة 142
إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم 14
أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي 136
انظرن من إخوانكن 183
إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه 173
أوصيكم بالأنصار خيرا أن تقبلوا من محسنهم، وتتجاوزوا عن مسيئهم 42
أيتكن صاحبة الجمل الأدبب الأدبب الأدب أظهر الإدغام لأجل السجعة، والأدب 113
بني الإسلام على خمس 82
بينما أنا نائم رأيتني على قليب القليب البئر غير المطوية عليها دلو، 141
تقتله الفئة الباغية 128
تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق 127
جاءت امرأة إلى النبي فأمرها أن ترجع إليه قالت له فإن لم أجدك كأنها 141
حين سمع قول عائشة رضي الله عنها مروا عمر فليصل بالناس إنكن لأنتن 145
خير أمتي قرني،، ثم الذين يلونهم،، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق 33
سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي يا محمد، إن 34
لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك 33
لا نورث ما تركناه صدقة 45, 148, 149
لا نورث، ما تركنا صدقة 147
لا يأتيك من الحياء إلا خير 169
لا يدفن نبي إلا حيث يموت 48
لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا 142
لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه 15
لو كنت متخذا في الإسلام خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي، وصاحبي 141
ملعون من انتسب لغير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه 182
من رأى منكم رؤيا فقال رجل أنا رأيت، كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت 143
مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحدكم في تركه فإن لم يكن 34
هذه ثم ظهور الحصر 121
هو أخوك 181
هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر 181
وقال النبي لعمر وقد وقع بينه [ أي بين عمر ] وبين أبي بكر كلام، فتعمر 141
ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة 168



الفهرس
رسالة التقدير 2
تصدير 4
القاضي أبو بكر بن العربي مؤلف العواصم من القواصم 468 - 543 10
نشأته الأولى 10
رحلته عن إشبيلية 11
تعرض سفينته للغرق 11
مروره بالديار المصرية 14
وصوله إلى بيت المقدس 14
مروره بدمشق 16
وصوله إلى بغداد واشتغاله بطلب العلم 17
اتصاله بأبي حامد الغزالي 20
ذهابه إلى الحج، وعودته إلى بغداد 21
العودة بطريق دمشق وفلسطين والإسكندرية 22
وصوله إلى إشبيلية 23
أصحاب رسول الله  عدول بتعديل الله ورسوله لهم ولا ينتقص أحدا منهم إلا زنديق 32
خطبة المؤلف العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي  36
قاصمة الظهر 37
وفاة النبي  ووقعها في نفوس الصحابة 37
استخفاء علي وإهجار عمر 37
حوار العباس وعلي في مرضه  38
اضطراب أمر الأنصار واجتماع سقيفة بني ساعدة 39
عاصمة 40
تدارك الله الإسلام والأنام بأبي بكر الصديق 40
عاصمة 41
رباط جأش أبي بكر في اليوم الرهيب 41
موقفه في سقيفة بني ساعدة 42
موقفه من مانعي الزكاة 44
تنظيمه جيش الخلافة 44
حديث لا نورث ما تركناه صدقة 45
حديث لا يدفن نبي إلا حيث يموت 48
جعل عمر شورى في اختيار الخليفة بعده 49
سجايا عثمان وصفاته الممتازة 50
وصف إجمالي لدعاة الفتنة 52
قاصمة 55
المظالم والمناكير 55
عاصمة 57
موقف عثمان من عبد الله بن مسعود وعمار 57
جمعه للقرآن 59
ما أوخذ به عثمان من حماية الحمى لإبل الصدقة 63
أبو ذر ومسيره إلى الربذة 64
عثمان وأبو الدرداء 66
رد الحكم 66
ترك القصر 68
معاوية ومكانته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان 68
تولية عثمان عبد الله بن عامر بن كريز 70
تولية عثمان الوليد بن عقبة 71
عدالة مروان 73
إعطاؤه خمس إفريقية لواحد 80
عثمان لم يضرب أحدا بالعصا 81
علوه على منبر رسول الله  82
انهزامه يوم حنين وفراره يوم أحد 82
مؤاخذتهم عثمان بأنه لم يقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان 84
تحقيق علمي عن الكتاب المنسوب لعثمان 86
قول علي إن الخارجين على عثمان حساد طلاب دنيا 87
التعريف بالغافقي المصري وكنانة بن بشر وسودان بن حمران 88
التعريف بعبد الله بن بديل وحكيم بن جبلة والأشتر 89
تسيير عثمان مثيري الفتنة إلى معاوية بالشام 92
انتقال مثيري الفتنة إلى منطقة عبد الرحمن بن خالد ومعاملته لهم بالحزم 94
مسير فرق الثوار إلى المدينة 95
وقائع ومحاورات بين عثمان والبغاة عليه 99
فتوى ابن عمر لعثمان بألا يخلع نفسه لئلا تتخذ عادة 100
إشراف عثمان على الناس واستشهاده إياهم بسوابقه 100
موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار 101
اعتزام الأنصار الدفاع عن عثمان 101
تزويرهم الكتب على لسان عائشة 103
الحكم الفقهي في موقف عثمان من الدفاع عنه أو الاستسلام 104
اقتداء المؤلف بعثمان في مثل موقفه 105
تشويه أخبار الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد الأخبار 106
تشويه أخبار الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد الأخبار 106
المدينة في حكم الإرهابيين خمسة أيام بلا خليفة ثم بويع عليّ 107
قولهم في بيعة طلحة يد شلاء وفي طلحة والزبير بايعا مكرهين 108
قاصمة 112
اجتماع أصحاب الجمل بمكة وخروجهم إلى البصرة 112
خرافة الحوأب وشهادة الزور 113
خروج علي إلى الكوفة وما وقع في العراق قبل وصوله 113
عاصمـــة 115
مجيء أصحاب الجمل إلى البصرة 115
نقض حكيم بن جبلة لكتاب الصلح ومصرعه 119
مصرع طلحة بن عبيد الله وكعب بن سور قاضي البصرة 119
حديث هذه ثم لزوم الحصر والكلام في صحة خروج عائشة 121
عود إلى ذكر الحوأب ونقض الأسطورة عنه 122
قاصمة 122
حرب صفين ودعوى الفريقين وما اخترع في ذلك من أكاذيب 122
عاصمـــة عود إلى موقف علي من قتلة عثمان 124
قاصمــة التحكيـــم 130
عاصمـــة 133
قاصمـــة 136
عاصمـــة 139
مقارنة موقفهم من الصحابة بموقف اليهود والنصارى من أصحاب موسى وعيسى 139
الأحاديث الصحيحة في أبي بكر وعمر ومكانتهما العليا 140
مراتب الصحابة ومن بعدهم وأصناف أئمة الدين ومنازلهم 144
إصابة عمر في جعل الإمامة شورى ودقة ابن عوف في تخير عثمان 145
لم يكن بعد عثمان أولى بها من علي فجاءته على قدر 146
قاصمة بيعة الحسن وصلحه مع معاوية 150
عاصمة 151
علي لم يعهد إلى الحسن لكن البيعة للحسن منعقدة 151
حديث الخلافة ثلاثون سنة ينقضه حديث اثنا عشر خليفة 152
مزايا معاوية وسيرته الممتازة التي أهلته لحمل أعباء الإسلام 154
إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه 158
فساد ما تقوله الشيعة في وفاة الحسن أهلية يزيد للولاية 160
نقد ثلاثة أخبار ملفقة على وهب بن جرير في تمهيد معاوية لولاية يزيد 161
ابن عمر يعلن في الثورة على يزيد أن في عنقه البيعة الشرعية له 168
الشهادة ليزيد له بالاستقامة والصلاح 170
الحسين بين الذين نهوه عن الخروج والذين حرضوه عليه 171
نكتة النبي  أول من عقد الولاية لبني أمية 176
مسألة استلحاق معاوية لزياد 177
الفرق بين واقعتي استلحاق زياد وابن وليدة زمعة 180
نكتـــــة الولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس 185
قاصمــــة 187
اجتماع العرب بالإسلام 187
ظهور الأحزاب البكرية والعمرية والعثمانية والعلوية والعباسية 187
عاصمـــة 190
تحذير المسلمين من أهواء المفسرين والمؤرخين وأهل الآداب 190
ما نسب إلى الأمويين أهون من قول المأمون بخلق القرآن وسماح العباسيين بقراءة كتب الجاحظ في المساجد مع ما فيها من مناكير 192
بعض المراجع 194
فهرس الآيات 198
فهرس الأحاديث 200
الفهرس 202

Tidak ada komentar:

Posting Komentar